خطاب الكراهية والطائفية.. وجه أسود في الحالة السورية

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 septembre 2016

يصعد خطاب الكراهية في المجتمعات الإنسانية عندما تبدأ بوادر الفرز الاجتماعي بالظهور والهيمنة على المشهد، الفرز الاجتماعي الذي تعمدُ كل الأنظمة الدكتاتورية والشمولية في العالم على تغذيته؛ لزيادة التوتر والحقد بين فئات المجتمع الدينية والعرقية والفكرية، الأمر الذي يسهّل عليها البقاء في السلطة أكثر.

في حالة الحرب الأهلية، يظهر هذا الخطاب في أجلى صوره، ولا سيما أن الاحتراب لا يكون بين متوافقين أو متجانسين، فترى كل معسكر يستخدم اللغة المضادة للمعسكر المقابل، ويُغذي رغبته في متابعة القتل عن طريق تعميق الهوة الاجتماعية بينه وبين الآخر، وطرد كل ما يصدر عن العقل من منطق، فيغدو دم الآخر هو فرحة لقلبه المثقل بالأحقاد.

وسط هذه الحالة من تراجع الوعي الاجتماعي وعودة العقل إلى مربع صفر (حيث تنعدم عندها كل مظاهر التوازن وتنمو فيها كل مظاهر العصبية والطائفية) تأتي منظمات المجتمع المدني لتعمل على مواجهة هذا الخطاب، وتنوير العقل المغلق، وإيقاف مقصلة الدم عن الاستمرار في السفك.

ليست الحالة السورية ببعيدة عن المشهد، حيث إن خطاب الكراهية والطائفية بات مترددًا على المسامع، وفي ساحات الوغى، وسط محاولات، قد لا تكون كافية، من منظمات المجتمع المدني، والتي نشأت بعد بداية الثورة السورية، في التصدي لهذا الخطاب.

وبحسب إحصاءات غير رسمية، فقد بلغ عدد منظمات المجتمع المدني السورية حوالي 900 منظمة، تعمل في مجالات شتى، أبرزها الإعلام، التنمية، التعليم، الحوكمة، والأبحاث.

خطاب الكراهية/ الطائفية السوريهل نشأ مع الثورة

يقول وسيم حداد، متخصص في مجال الحوار بين أتباع الأديان وبناء السلام وحل النزاعات، لـ (جيرون): إن هذا الخطاب “كان موجودًا دائمًا، ولم ينشأ مع بداية الاحتراب في سورية، وتمت تغذيته تاريخيًا من عدة جهات، أهمها وأولها السلطة السياسية (النظام) التي عمدت بشكل كبير، وخلال عقود إمساكها بالحكم إلى تعميق الهوة بين السوريين عمومًا، وتغريبهم عن بعضهم بعضًا (دينيًّا وعرقيًا وثقافيًا ومناطقيًا)؛ بهدف إحكام قبضتها عليهم، دون مقاومة تذكر، وهو ما أدى بشكل مباشر إلى نشوء أجيال بأكملها لا تعرف عن الآخر المختلف سوى بعض الصور النمطية، والتي تمت تغذيتها بشكل أو بآخر عبر نظام تربوي، بعيد كل البعد عن تقديم صورة واقعية عن الآخر”.

والجهة الثانية التي غذّت الخطاب -بحسب رؤية حداد- هي “السلطة الدينية التي انساقت وراء السلطة السياسية، وعمدت إلى تكوين دويلاتها الخاصة، ضمن المؤسسات الدينية، والتي لا تختلف كثيرًا -في طريقة إدارتها- عن الطريقة التي تدار فيها مؤسسات السلطة، وعمدت -أيضًا- إلى استكمال مخطط السلطة الحاكمة، وبتشجيع منها، في تخويف وتغريب السوريين والسوريات عن بعضهم بعضًا”.

ويرى رئيس الرابطة السورية للمواطنة، الدكتور حسان عباس، أن “التحدّث عن خطاب الطائفية يقلّل من خطر ما يجري في سورية اليوم؛ فالخطاب فعلٌ لغوي، مادته الكلام، حتى لو كانت وظيفته تتعدى مجرّد الكلام، وتتجه نحو ممارسة عنف رمزي على المتلقي؛ بهدف التأثير عليه. أما ما نراه اليوم، فأوسع بكثير من مجرد خطاب، إننا أمام “ثقافة” طائفية يشكل الخطاب مظهرًا من مظاهرها، وربما كان واحدًا من المظاهر الأقل خطرًا”.

وتابع خلال حديثه مع (جيرون): “نستطيع القول: إن هذه الثقافة (الطائفية)، ككل ثقافة أخرى، لا تأتي بالطبيعة، أي أنه ليس ثمة من جينات تحملها من جيل إلى آخر؛ إنها ثقافة مكتسبة بالضرورة، ويمكن الكلام عن عوامل، وعن أحوال موضوعية، ساهمت في تفشيها، أو غذّتها، وفي مقدّمة هذه المعطيات دأبُ النظام، منذ انطلاقة الانتفاضة، على تطييف الصراع، سَواء من خلال إصراره على منحه صفة طائفية (لا ننسى أن المستشارة الإعلامية للأسد استخدمت هذه الصفة في كلمتها يوم 26 آذار/ مارس 2011، أي: في الأيام الأولى للانتفاضة)، أم من خلال العنف المتنامي المحتَسَب على طائفة بعينها، وقعت في فخ الضرورة الذي نصبه لها النظام؛ كي يؤمّن لنفسه الذخيرة البشرية التي يقاتل بها”.

ويؤكد عباس أن من عوامل تغذية هذا الخطاب “التدخل العسكري الميليشوي، ذو الطابع الطائفي الصرف، القادم من لبنان وإيران والعراق والهزارة الأفغانيين، ولا ننسى بالطبع العمل التجييشي لقنوات التَّزمُّت الديني شديدة الطائفية، المُدارة بالمال الخليجي، لننتهي بالإسلاميين الجهاديين من أهل النصرة وداعش وأولاد عمومتهما. أي باختصار: ظهرت ثقافة الطائفية وتعززت برغبة النظام وتدبيره، ثم غذّتها ورسختها القوى المنخرطة في عملية تدمير سورية”.

وأشار إلى “أن التنوع الثقافي هو نعمة بذاته، إذا ما تمت إدارته بحكمة واعتدال، لكنه يصبح، وأصبح في سورية، نقمة؛ لأن النظام الأسدي، في مرحلتي الأب وخليفته، فشل في إدارة التنوع، فأرسى آليات تحفّز ديناميكية التحول من الانتماء الثقافي، وهو انتماء طبيعي، بل وحميد، إلى ثقافة الانتماء، وهي ثقافة التعصب بامتياز”.

كما خلُص حداد إلى القول بأن “ما كان يقال عن التعايش والحوار والتماسك الاجتماعي، كان -في الواقع- ضرب من ضروب الوهم، وتزييف مقصود من السلطة السياسية والدينية على حد سواء، حيث إن العوامل التي ذكرتها، أدت إلى أن يعيش السوريون، في ما يخص التعايش وقبول الآخر، في سياق من التلفيق والتزييف، فعاشوا بشكل متوازٍ مع بعضهم بعضًا، دون اختلاط حقيقي ومعرفي حواري، يؤدي إلى إزالة الصور النمطية والخوف من الآخر”.

آليات المواجهة

تقع على عاتق منظمات المجتمع المدني مسؤولية مواجهة هذا الخطاب، إذا ما أخذنا في الحسبان أن السلطة والسلاح يغذيان هذا الخطاب، ويدفعان به نحو ممارسة دموية، تستنزف السوريين أرواحًا ومواردَ ومسقبلًا، وذلك عبر آليات وبرامج توعوية واجتماعية، نحاول أن نقف على أبرزها في هذا التقرير.

يعتقد عباس أن “المضاد الحيوي الأمثل لمرض الطائفية هو ثقافة المواطنة، بكل ما تعنيه من تشاركية وحرية ومساواة ومسؤولية”، واستدرك قائلًا: “غير أن هذه الثقافة ضعيفة جدًا اليوم، ولا تجد في البلاد الأرض الخصبة للنمو، وقد يكون من البديهي القول إن المجتمع المدني هو الحقل الأكثر ملائمة لنشر ثقافة المواطنة، والترويج لنجاعتها في التخلص من خطر الطائفية، أو على الأقل لتحجيم مفاعيلها الخبيثة”.

ويُردفُ: “إن خلق (المساحات المشتركة) للتحاور عملية مفيدة، كما أن تكثيف العمل في ورش التدريب على المواطنة أمر مفيد جدًا، ولا شك في أن وجود كتاب علمي أمر في غاية الإفادة. إننا في عملية سباق مع الزمن، وأي عمل يهدف إلى خلق الروابط العابرة للتصدعات، يشكل -في رأيي- جزيئًا ترياق مكافحة الطائفية”.

من جهته، يرى حداد أنه “لا بد من تضافر جهود عدة جهات، والعمل على تطوير برامج إبداعية وخلاقة، تهدف إلى تعزير قيم التعايش، وتعمل على تصحيح الصور النمطية: العمل مع المؤسسات التربوية، العمل مع المؤسسات الدينية، بناء قدرات القيادات الدينية، وتعزيز إمكاناتهم الخاصة بالحوار وتقبل الآخر، والتعايش المبني -طبعًا- على أسس متينة، وليس على الطريقة المزيفة التي اعتمدها النظام السوري على مدى عقود طويلة، تطوير مناهج تربوية حاضنة للتنوع الديني والثقافي والاثني، بما يساهم في تنشئة جيل يتربى على الانفتاح على الآخر، ترويج خطاب الاعتدال والوسطية عبر الإعلام، وبشكل أساس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خلق مساحات آمنة للحوار بين السوريين، تؤسس لحوار جدي وعميق بعيد عن التلفيق والتزييف، حوار تطرح فيه كل المخاوف بهدف معالجتها؛ لتولد في نهاية المطاف المصالحة من رحم هذا الحوار (لا يمكن لمصالحة حقيقية إلا أن تكون نتيجة لمسار حواري طويل وعميق)، تطوير شبكات للشباب السوري -على اختلاف انتماءاته- ليتعرف -أكثر- على بعضه بعضًا، الاستثمار أكثر في منتديات الحوار، وفتح حوارات بين السوريين في المجالات المختلفة، والتفكير جديًا- بتجريم خطاب الكراهية والخطاب الطائفي قانونيًّا، وحماية التنوع الديني والثقافي والاثني دستوريًّا”.

ويؤكد على ضرورة “التركيز -أكثر- على العمل مع، وعلى القيادات الدينية (ليس المقصود هنا أصحاب المراكز العليا بل الشخصيات الدينية عامة، والتي ما زال لها تأثير بشكل كبير على مجموعات كبيرة من الناس)؛ لتحسين وبناء قدراتها، وبهدف تجديد خطابها”.

ماذا لو فشلت المنظمات في مهماتها

أبدى عباس مخاوفه من الواقع الحالي قائلًا: “في الحقيقة لا بد لي من الاعتراف بأني خائف ممّا ألاحظ. إن اللون العام الذي يطغى على الصورة -اليوم- يعطيني الانطباع (أصر على الصفة الشخصية للانطباع، فقد يكون إحساسي معطوبًا، وأرجو ذلك) بأننا ننزلق -بعزم- نحو المزيد من تكريس الطائفية، حتى لتغدو وكأنها قدر لا مفر منه. أؤكد من جديد هنا، أن الطوائفية (تعدد الطوائف) أمر عادي وحميد، أما الخطر، فهو في ثقافة الانتماء إليها، وهذا ما أعنيه بالطائفية. إن كثيرًا مم أقرؤه اليوم في هذا الموضوع، يجعلني أرتاب من الاستسهال في الكلام عن الطوائف، وفي استخدام المفتاح الطوائفي في التحليل، ويجعلني أتوجس من الوقوع فريسة لمخالب الدب الذي تنبه تلك القراءات من خطره”.

وحول خطر استشراء هذا الخطاب ومفاعيله أكثر، يقول عباس: “التاريخ الحديث يعلمنا أن كل ما كنا نعدّ حدوثه مستحيلًا، قد يحدث، وأن لا حدود لوحشية الإنسان، وأن الضمير العالمي نائم أو منشغل؛ لذا فإن حدود الخطر لا متناهية إن فشلنا في لجم الانزلاق الطائفي. وهذا يعني -قبل كل شيء- كف يد كل الذين ساهموا في فتح أبواب الجحيم الطائفي، والنظام أولهم. لكن أيضًا، ومن جهة ثانية، وعلى الرغم من كل ما يحدث، لا تتزعزع ثقتي بالسوريين وبإرادتهم في بناء بلدهم على أسس المواطنة والحرية والكرامة. تلك كانت شعارات الثورة، ولا بد لها أن تنتصر”.

ويعتقد حداد أن فشل منظمات المجتمع المدني في مواجهة هذا الخطاب يعني الدخول في “سيناريو مرعب”، قائلًا: “على الجميع العمل بكل الوسائل لكسر هذا الجليد، ومنع خطاب كهذا من الانتصار في النهاية، لا أعتقد أن أمامنا أي حل آخر غير الاستمرار في كسر هذا الجليد بين السوريين، وإذا فشلنا فالبلد سيتفتت إلى كانتونات طائفية واثنية، ستبقى تتصارع فيما بينها إلى أمد طويل”