رافائيل بيتي: علينا إنقاذ إنسانيتنا قبل مسيحيتنا – جابر بك

Article  •  Publié sur Souria Houria le 7 mai 2016

رافائيل بيتي: علينا إنقاذ إنسانيتنا قبل مسيحيتنا
الطبيب رافائيل بيتي يؤكد أن شلالات الموت أغرقت السوريين بالدماء بعد أن تخلى عنهم العالم في معركتهم ضد الطغيان.

رافائيل بيتي طبيب فرنسي عائد من مشافي سوريا يصفها بالأسوأ منذ آخر حرب عالمية

باريس- انهار الجهاز الطبي في غالبية المدن والأرياف السورية تحت القصف والصواريخ وقذائف الطائرات والعمليات العسكرية التي يشنها نظام الأسد وحلفاؤه الروس ومعهم الميليشيات الشيعية المقاتلة. وكانت مدينة حلب آخر شهود ذلك الانهيار، بعد تدمير مشفى القدس وقتل آخر طبيب فيه. تلاه تدمير متعمد لمشفى ضبيط في مناطق سيطرة النظام، بتفجيره من داخله، كما اعترف مالك المشفى في تصريحات قالها مؤخراً.
في ذلك الوقت كان الجيش اللبناني يقصف النقطة الطبية الوحيدة في جرود عرسال والقلمون، والتي يعتمد عليها السوريون في تلك المناطق، لتصبح الأوضاع كما يصفها الخبراء، الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.

هاربون من الموت والمرض

بات اللاجئون السوريون في أوروبا اليوم محط اهتمام المجتمعات المضيفة لهم، كحال بيت الطلاب السوريين في مولوز المدينة الصغيرة جنوب الألزاس. وصل المدينة عشرة طلاب سوريين لدراسة اللغة الفرنسية، ضمن ترتيبات الجمعيات المدنية السورية والفرنسية في هذه البلدة. وبعد موافقة الجامعة انطلقت دورة اللغة متأخرة لأسباب إدارية. الطلاب السوريون في مولوز شكلوا حالة لافتة بالنسبة إلى السكان المحليين، أعلنوا بيتهم “سوريا الصغيرة” مفتوحاً لكل الضيوف. انهالت عليهم الدعوات لنشاطات مختلفة، وكتبت عنهم الصحافة المحلية وصولاً إلى الوكالة الوطنية للصحافة (فرانس برس).
بين الدعوات التي وصلت السوريين، كانت محاضرة لعدد من المتخصصين الفرنسيين للحديث عن بلادهم. جلسة طويلة امتدت لأكثر من أربع ساعات متصلة حلل فيها الخبراء الواقع الإثني والعسكري في سوريا. وكان السوريون في صفوف المستمعين والمتفرجين، وبذات الوقت فرقة للفرجة. هؤلاء هم السوريون الذين نتحدث عن بلادهم اليوم. هؤلاء هم القادمون من عالم الأموات إلى عالم الأحياء. البعض منهم وصل فرنسا منذ سنة وأكثر، والبعض منذ أيام والبعض منذ أشهر.
البروفيسور رافائيل بيتي (66 عاماً)، الراعي الأول لاتحاد المنظمات الطبية الإغاثية السورية كسر حالة الفرجة تلك. الطبيب الفرنسي المعروف، قادم من سوريا منذ 48 ساعة فقط قبل المحاضرة، جاء من الشمال السوري إلى فرنسا ليخبر الجمهور خبرته عن تلك البلاد الغارقة بالدم والنار.

خبرة السنوات الماضية يؤكد بيتي من خلالها أن الجهاز الصحي في سوريا معطل كليا. فقد ظهرت العشرات من الأمراض، ومنها أمراض منقرضة على المستوى العالمي كاللشمانية والكوليرا، والتيفوئيد وغيرها

وقف الرجل الستيني، بعد تقديمه، على منصة المسرح في الكنيسة العامرة بالحضور. بدأ حديثه بكل هدوء، شارحاً تفاصيل مشاهداته وخبرته عن تلك الأرض. خبرة تجمعت خلال سنوات خمس من العمل الإنساني. ملامحه تكلمت كثيرا ونبرة صوته أخبرت الحضور مشاعر لا يمكن أن تنقل بالأرقام.
الطبيب الفرنسي الذي رحل إلى أرض المعركة مبكرا، عبّر عن فرحه بوجود طلاب سوريين في الجلسة، وأكد أنهم الأحق بالحديث عن بلادهم. سمح لنفسه بالحديث كشاهد على الكارثة الإنسانية. رحل إلى سوريا في نوفمبر عام 2012.
يقول بيتي “سمعت في الراديو بأن المستشفيات تقصف والناس يموتون ويجرحون والأطباء يقتلون. اتصلت بجمعية الأطباء السوريين في فرنسا وعرضت عليهم خدماتي ومعارفي في مسألة الطب الحربي كوني طبيبا عسكريا في صفوف احتياط الجيش الفرنسي. أعمل في هذا الشأن منذ العام 1980. دخلت سوريا من الشمال عبر مدينة الدانا بريف إدلب. أسست هناك أول مستشفى ميداني ولكنه قصف. كررنا المحاولات وأسسنا مستشفيات ميدانية سرية وفي غالبيتها قصفت من قبل قوات النظام السوري”.

الواقع كان كارثيا منذ البداية. نقص كبير بالكوادر وقلة خبرة واضحة في الطب الحربي وطب الطوارئ. أسس بيتي مستشفى طب حربي للتدريب. تدرب فيه أكثر من سبعة آلاف سوري. لكن الحاجة لم تنته، ازدادت مع ارتفاع معدلات العنف باستمرار. بعدها أسس بيتي مستشفى ثانيا على الحدود السورية اللبنانية ولكنه أغلق بعد هجوم حزب الله عليه.
كأنه سأل نفسه، لماذا أنا هنا؟ ليجيب بعدها فورا وبنبرة متألمة، “أنا هنا لأقول لكم بأنه وبعد عودتي من سوريا إلى فرنسا في الرحلة الأولى، وجدت الإعلام الفرنسي يقول ‘ليرحل الأسد’ وبعد قليل انتقل للقول ‘ليرحل داعش’، وبعدها بدأ العزف على وتر أزمة اللاجئين ومازال البحث مستمرا على المستوى الإعلامي عن حلّ لهذه الأزمة”. يكرر بيتي “أنا لا أهتم بالسياسية ولكن البلاد منكوبة بكل قراها ومدنها، إنها الحرب في سوريا، أسوأ وضع إنساني منذ الحرب العالمية الثانية”.

أرقام ووثائق بيتي

رافائيل بيتي، يدرب الفرق الإغاثية في مدينة حلب السورية على الجراحات الإسعافية بعد رحيل أطباء المدينة بين لاجئ وقتيل
يبدأ بيتي بسرد الواقع الإنساني في سوريا بالأرقام. وينوّه مرات عدة بأن الأرقام غير دقيقة، لأنها تتزايد. فمنذ بداية الحرب على الأرض السورية قضى أكثر من 260 ألف مدني، واعتقل أكثر من 200 ألف، وبات في عداد المقعدين أو أصحاب الاحتياجات الخاصة أكثر من 600 ألف سوري.

العام الماضي فقط، قضى أكثر من 55 ألف سوري بينهم حوالي 2500 طفل على أقل تقدير. أكثر من 60 بالمئة من المراكز الطبية دمرت. معظم العاملين في الشأن الصحي هربوا من البلاد، يضيف بيتي “هذا حقهم، عليهم أن ينقذوا عائلاتهم وأطفالهم، ولكن بعد رحيل الأطباء، تصدى للموقف طلاب الكليات الطبية والتمريضية. أخذوا مكان الأطباء لكونهم شبانا صغارا وليست لديهم أيّ التزامات عائلية كبيرة”.
بناء على خبرة السنوات الماضية هناك أكد بيتي أن الجهاز الصحي في البلاد معطل كليا. فقد ظهرت العشرات من الأمراض، ومنها أمراض منقرضة على المستوى العالمي “كاللشمانية والكوليرا، والتيفوئيد والإسهال الذي أصبح بين الأمراض القاتلة في ظل الحرب اليوم، في بلاد لا وجود للماء النقي فيها”
قبيل الثورة كانت نسبة الموت الطبيعي في سوريا أكثر من 3 بالألف، ولكن اليوم لا أحد يعلم نسبة الموت الطبيعي. يمكن القول إن السوريين اليوم لا يفكرون بهذا الرقم. شلالات الموت الساقطة من السماء والنابعة من الأرض أغرقت الجميع بالدماء.
ولدت الفوضى بأبشع أشكالها، مافيات، وسرقة، وخطف مقابل المال، انهيار شبه كلّي لقطاعات الدفاع المدني والإطفاء والإسعاف وكل الخدمات من المياه والكهرباء والصرف الصحي ونقل وترحيل النفايات. يضاف إلى ما سبق وضع اقتصادي كارثي، خاصة بعد تدمير قطاع الصناعة في حلب وانهيار الليرة السورية، وسرقة النفط وتحطيم البنية التحتية برمّتها في كثير من المدن والقرى السورية.

الطبيب الفرنسي يتحدث عن الأوضاع الصحية في سوريا بغضب شارحا « إننا اليوم نتحدث عن عشرين مليون سوري يتعذبون، حتى قبل الثورة. الجفاف ضرب البلاد فهجر أكثر من مليون سوري منطقة الجزيرة إلى المدن السورية الكبرى. هؤلاء يحق لهم أن ينتفضوا دون أي دوافع سياسية »

كل هذه المصائب دفعت الناس إلى الهرب من بيوتهم. خوفا من الموت بالبراميل أو بالأمراض. سبعة ملايين ونصف المليون تقريباً نازحون داخل سوريا. أكثر من أربعة ملايين باتوا لاجئين في دول الجوار، موزّعين في لبنان، وتركيا، والأردن، ومصر، والجزائر، والعراق، والسودان. الزعتري ملمح من وجوه اللجوء السوري في بلاد الجوار.
سأل بيتي الحضور الفرنسي هل يقبل أحد منا السكن في هذه المنطقة لسنوات أربع؟ مستعرضاً صور المخيم. هل تستغربون قدوم هؤلاء الناس إلى أوروبا؟ يجيب، جاؤوا ليعيدوا بناء حياتهم، وحماية أطفالهم
وبحماس أهل المصاب، يتابع بيتي قوله إن “الكارثة لم تنته بعد. أكثر من ستة ملايين طفل خارج المدارس اليوم. بعد تدمير أكثر من خمسة آلاف مدرسة خلال سنوات الحرب. قرابة 12 مليون سوري بحاجة إلى مساعدة إنسانية. بينهم أكثر من نصف مليون فلسطيني. المنظمات الإنسانية لا يمكن لها الدخول إلا عن طريق النظام. لدينا اليوم أكثر من مليون ونصف مليون محاصر في مناطق مختلفة مثل داريا والغوطة الشرقية. وصلت الأسعار إلى حد الجنون، ورغم الهدنة مازالوا محاصرين ولا تصلهم المساعدات”. يختم بيتي حديثه بالجزم أن هذه الكارثة لا بد وأن تنتهي، وإلا فإن السوريين لا يمكن منعهم من الخروج والوصول إلى كل بقعة في الأرض.

كلام الاختصاصيين

أنا متعب من كلام الاختصاصيين، الذين يتحدثون في الجغرافيا السياسية، ويهملون الإنسان”. هذه الإجابة الافتتاحية التي بدأ بها بيتي جوابه على سؤال “العرب” بشأن الموقف الحقيقي والحديث عن المخاوف على المسيحيين والأقليات في حال سقط الأسد. تابع الطبيب بغضب “إننا اليوم نتحدث عن عشرين مليون سوري يتعذبون، حتى قبل الثورة. الجفاف ضرب البلاد فهجر أكثر من مليون سوري منطقة الجزيرة إلى المدن السورية الكبرى. هؤلاء يحق لهم أن ينتفضوا دون أيّ دوافع سياسية”.

المنظمات الطبية الدولية تقول إن مستشفى القدس الذي تعرض للقصف الجوي كان مدعوما منها، ما سيؤدي إلى حرمان الكثيرين من الرعاية الطبية
يقول بيتي “نحن كغربيين دفعنا السوريين ليتخلصوا من الدكتاتور. لكننا تركناهم وحيدين في معركتهم ضد الطغيان. بدأت المظاهرات المطالبة برحيل الأسد بعد قصة أطفال درعا الشهيرة. انطلقت الآلة العسكرية التابعة للنظام بالقتل منذ اليوم الأول. مع الوقت تشكّل الجيش السوري الحرّ بهدف الدفاع عن المدنيين وحمايتهم. اجتمع العالم ونحن كفرنسيين معهم لدعم هذا التشكيل ولكن كغيرها من المواقف تخلّينا عنها. تركناهم ليذهبوا إلى أحضان قطر وغيرها طالبين للتمويل. فتفردت الجماعات ذات الطابع الإسلامي بالدعم المالي الكبير من هذه البلاد”.
يصف بيتي المشهد أكثر فيضيف “كل الكلام عن رحيل الأسد وضرورة التخلص منه لم ينفّذ. الخطوط الحمراء باتت من الماضي ومُرّغ كلام أوباما بالوحل. وهذا الأخير لم يملك الشجاعة الكافية لطرد الأسد. ربما أُسر بجائزة نوبل للسلام. وبعد كل هذا لماذا نتفاجأ بوجود داعش؟ لكن السؤال الكبير، هل مشكلتنا بوجود داعش أم بوجود الدكتاتورية؟ نحن إذا ما أردنا أن ندعم ملف طلاب في جامعاتنا نطلب التمويل من دول إسلامية وخليجية. هل يحق لنا اليوم رفض أو قبول ما يجري على أنه حرب بين الشيعة والسنة؟ بين السعودية وإيران؟

بالحقيقة هي حرب بين الغرب وروسيا، وبين عدد من القوى الإقليمية وجاء الاتفاق الإيراني مع أميركا ليدعم الأولى على حساب القوى السنيّة في المنطقة. بعد كل هذا يأتي من يسأل كيف يمكن أن نحمي الكنائس في سوريا؟ هل من يموت في سوريا هم المسيحيون أم المسلمون؟ هل دمرت الكنائس فقط؟ هل تعلمون أن السوريين يفرّون إلى أراضي داعش لأنها أكثر أمنا من مناطق المعارضة، فالنظام لا يقصفها”.
يختم بيتي “بعد كل هذا أودّ القول بأننا كمسيحيين لا يجب أن ندافع عن الأسد، علينا أن ندافع عن إنسانيتنا حتى قبل مسيحيّتنا. أنا أصلّي بين السوريين حتى اليوم كمسيحي ولم أشعر يوما بالخطر على حياتي بينهم”.

جابر بكر