سقطت قناعات ولم يسقط الأسد – جميل مطر

Article  •  Publié sur Souria Houria le 31 octobre 2014

سقطت قناعات ولم يسقط الأسد –  جميل مطر

لا أحد في واشنطن، وفي رأيي، يعرف بالتأكيد أو بالتقريب ماذا سيحدث في الشرق الأوسط في حال بقي الأسد أم سقط. أسمع كثيرا عن القدرات الخارقة للدولة الأعظم وعبقرية قادتها وأجهزتها، ولكني أعرف كثيرا أيضا عن نواحي عجز هذه القوة الجبارة، خصوصاً في الشرق الأوسط. يحلم أغلب الحكام في العالم العربي بمشهد أو آخر هو الذي في ظنهم يجب أن يتحقق. ومع ذلك، تبقى بعض عواصمنا العربية في حالة « غيبية ». تشرح هذه الحالة عبارة تكررت في أكثر من مناسبة على أكثر من لسان، خلاصتها أن ما سيحدث سوف يحدث. « المهم أن يحدث بعيدا عني وعن حدودي ». عبارة موجزة، ولكنها تكشف بدورها عن سوء فهم مبيت للسياسة عموما وللسياسات الإقليمية والدولية خصوصاً.

طال أمد حرب سوريا الأهلية. بدأت بثورة شعبية ضد نظام ديكتاتوري، وبسرعة فائقة راحت تدعمها أموال وقوى سياسية خليجية، وانتهت حربا إقليمية بالوكالة، وحربا باردة مصغرة بين روسيا وأميركا، واستدعت جيوشا « دينية » تحمل عناوين سلفية وجهادية وتكفيرية وسنية وشيعية، وجيشاً حراً لم يثبت نجاحا يذكر أو يكشف عن قوة تعين المعارضة المدنية على المشاركة في تقرير مستقبل هذه الحرب، وهذا البلد، ومن بعده الإقليم.

كنا من القائلين، مع كثيرين من الذين تابعوا تطور النظام العربي وشخصوا أمراضه وحاولوا تقديم الوصفات لعلاجه منها، إن الشرق الأوسط برمته، وليس النظام العربي وحده، لن يعود في نهاية هذه الحرب السورية، إلى الوضع الذي كان عليه قبل نشوبها. أسمع عن أنظمة عربية استطاعت التفلت من « عواصف » الربيع العربي، ولكني أسمع أيضا من داخل دول هذه الأنظمة عن واقع يناهض هذا الزعم ويتحداه. نعرف أن التغيير حادث سواء على مستوى مؤسسات النظام العربي أي على صعيد العمل العربي المشترك، أو على مستوى السلوك المنفرد لكل دولة عربية على حدة. وهو حادث أيضاً في دول الجوار.

فإيران ليست في حقيقة الأمر سعيدة بما يحدث في العراق وسوريا ومصر وليبيا، وليست مطمئنة إلى أنها ستبقى قادرة لأمد أطول على المحافظة على ما حققت من انتصارات ديبلوماسية وانجازات دولية. وتركيا من ناحية أخرى، تمر في مرحلة لا يخفى مدى تعقيدها وارتباكها، سواء على صعيد أمنها الداخلي أو وحدتها القومية أو علاقاتها الدولية. التغيير مستمر وسيدفع كل من أساء الفهم أو تأخر عن الفهم أو امتنع عن الفهم الثمن غاليا عندما يرى نفسه طرفا مفعولا به في نظام إقليمي جديد وشبكة تفاعلات دولية لم يعهدها من قبل.

ليس صعبا علينا أن نعيد النظر في قناعاتنا التي تكونت حتى تراكمت على امتداد السنوات القليلة الماضية، بل وليس صعبا علينا أن نعترف بداية بأنها اهتزت إن لم تكن سقطت. تغيرت القناعة بأن إيران تزداد في ظل الأزمة السورية قوة ونفوذاً في الشرق الأوسط والساحة الدولية. تغيرت هذه القناعة لأن « داعش » كانت ضربة في صلب المصلحة الإيرانية ونكسة في مسيرة نفوذها. تغيرت أيضاً لأن مصر تجاوزت خطراً داهماً واستطاعت أن تستعد، وإن بصعوبة مرهقة وتكلفة هائلة ومتصاعدة، لمرحلة مواجهة ساخنة مع قوى وتيارات جديدة في الإقليم. كانت هناك قناعة بأن مصر إن افاقت فلن تتدخل في الموضوع السوري أو في غيره. تغيرت القناعة بأسرع مما تصورنا، لا لشيء إلا لأنها لم تكن متسقة مع حال مصر بعد ثورة هزتها إلى الأعماق ومع الضغوط التي تمارس عليها.

كانت هناك أيضا قناعة « شبه عالمية » بأن نظام الأسد لن يعمر طويلا وأن سقوطه مؤكد قبل مرور وقت طويل. مر الوقت الطويل ولم يسقط نظام الأسد. والسائد الآن في عواصم كثيرة، غربية على الأقل، أن نظام الأسد تجاوز مرحلة الخطورة وانتقل إلى الهجوم واثقا من أن أميركا باتت تستعد لاحتمال أن تراه مشاركا في تسوية إقليمية واسعة.

كذلك سقطت أو تغيرت قناعة سادت لفترة وظهرت بوضوح من خلال الجهود التي بذلها الأخضر الإبراهيمي في جنيف. سقطت فكرة أن أميركا وروسيا قادرتان معا على الوصول إلى حل في سوريا. إذ ثبت بكل الوضوح الممكن أن الدولتين لا تملكان المفاتيح اللازمة للتأثير في أوضاع سوريا الداخلية وعلاقاتها الإقليمية، أو للتأثير في تداعيات « الربيع العربي » والتدخل في توجيه مساراته.

اجتمعت للمرة الثانية في إطار مؤسسة « راند » للبحوث الدفاعية والمعروفة بعلاقتها بأجهزة الأمن والسياسة الخارجية الأميركية، لجنة سبق أن اجتمعت في آب العام 2013 لتضع تقريرها عن احتمالات تطور الحرب السورية. خرجت اللجنة من اجتماعها هذه المرة، أي بعد مرور عام على صدور تقريرها، لتعلن نتيجتين متناقضتين في رأيي وهما:

أولا: إن التسوية المتفاوض عليها مع نظام الأسد لم تعد مشهدا مطروحا بقوة بين مشاهد حل الأزمة السورية.

ثانيا: إن سقوط نظام الأسد، وهو مشهد صار أبعد احتمالا، لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية.

بمعنى آخر، يفيد واشنطن الآن المحافظة على نظام الأسد، أكثر مما يفيدها مساعدة قوى المعارضة على إسقاطه، وقد يكون المنطق وراء هذه التوصية من «راند» مستندا إلى حقائق أو اجتهادات استجدت أهمها:

1) إن وضع نظام الأسد أفضل من أي وقت مضى منذ شهر آب الماضي.

2) زيادة الانقسامات بين قوى المعارضة المسلحة.

3) وصول « داعش » إلى سوريا ساعد في تخفيف الضغوط على الأسد.

4) « داعش » لن تتضرر كثيرا بفوز الأسد أو استمراره في الحكم، فتركيزها الأهم هو على العراق وتأمين حدود سوريا الشمالية من احتمالات غزو تركي أو نزع السيادة السورية على زمام حلب لصالح أنقرة وحلف « الناتو ».

5) إيران لن تحقق توسعا في النفوذ أو في المكانة إذا انتصر الأسد، فالفوز هذه المرة سوف يتحقق ولو ضمنيا، بفضل أميركي يساوي أو يزيد على الفضل الإيراني.

نعم. تبدلت قناعات كثيرة لم يكن في ظن أغلبنا أنها تتبدل. وعلى كل حال لم نتفاجأ، فهذا هو الشرق الأوسط.