في الاستعادة، إفادة …. – سلام كواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 9 août 2015

في الاستعادة، إفادة …. – سلام كواكبي

Salam Kawakibi

Salam Kawakibi

من خلال القراءة المستمرة لهواة النوع، كثيراً ما يصطفي القارئ بعضاً من العبارات التي تجذبه وهي تحمل له الثري من المعنى والجميل في الصياغة. وغالباً ما يشعر بالسعادة الذهنية وبعضاً من الغيرة التي تدفعه للتساؤل عما إذا كان له أن يخط أو ينطق بمثل ما قرأ. والغيرة هنا ليست فعلاً سلبياً بالمطلق، ولكنه فعلٌ مُحفّز نسبيياً

وفي ماضٍ ليس ببيعد، انتقدني صديقٌ باحث لعملي الجزئي على تراث النهضوي الراحل عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902). واعتبر أن هذا هو عمل « غير لائق » بالحفيد الذي عليه أن يترك شخصاً مجرّداً من العلاقة العائلية لكي ينهل ويُحلّل في فكر الجد. وبالطبع، النقد كان هادئاً ومبرراً وبعيداً عن المسّ بالشخص المشغول عليه أو بفكره، ولكن وجهة نظر الصديق، هي خطورة مزج الشخصي بالعام

لعنادٍ فكري، ولحماسة ذاتية، لم أقتنع بما ذكره الصديق وتابعت اهتمامي بالفكر الذي حملته كتابات الكواكبي مبتعداً عن التعظيم المجاني وموّضّحاً ملاحظاتي التي تحاول أن تكون موضوعية آخذة بالاعتبار مجمل العمل الفكري الهام في إطاره التاريخي والزمني الذي ورد فيه. إضافة إلى تمتعي بلعبة الإسقاطات التي وجدت أن نصّه يفسح المجال واسعاً لممارستها. وقد أثبتت السنوات الأخيرة، بأن ما جاء في نصوصه ما زال مُعاشاً ويمكن أن يُقرأ في أية لحظة ليُخال لقارئه بأن من أورده حيٌّ بيننا

كل ما سبق قوله ولكي لا أغرق في العموميات، هو تبريرٌ لاستعراض فكرة برزت في مقطع صغير ورد في كتاب « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد » الذي نشر سنة 1902، حيث يقول الكواكبي :

« الاستبداد ينبغي ألاَّ يُقاومَ بالعنف، كيلا تكون فتنةٌ تحصدُ النّاس حصداً. نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشّدّة درجةً تنفجرُ عندها الفتنةُ انفجاراً طبيعيّاً، فإذا كان في الأمّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتّى إذا سكنت ثورتها نوعاً وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة. وخيرُ ما تؤسّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة »

بالطبع، فهذا الكلام « خطير » بالمعنى الجاري للأحداث القائمة في المنطقة العربية وفي سوريا خصوصاً. وهو استفزازي لمشاعر الضحايا ومن يلوذ بهم وهم كثر. ويُمكن أن يعتبره بعضهم « إهانة » لذكائهم ولنضالهم .. إلخ. وهذا شيء محمودٌ في كل نص، أي أن يُحرّض على النقاش ويُحاول أن يُناقش الأفكار السائدة دون أن ينفي صوابها ودون أن يسعى فقط لتبيان نواقصها. وهذا ما أسعى إليه في هذه العجالة

لقد تناقش السوريات والسوريون طويلاً حول السلمية واللاعنف والانتقال إلى التسلّح واستغلال هذا الجانب العنفي في إقامة « إمارات » حرب وتزويد من لا ناقة له ولا جمل بالثورة ولا بالقضايا العامة المشتركة بين من ثاروا، بشرعية السلاح واستعمال القوة. ولكنهم، في غالبهم المطمئن إلى انخراطه العضوي في شرعية الحَراك الشعبي، تجاوزوا هذا الجدل السفسطائي في البحث عن أيهما أول، البيضة أو الدجاجة

فالعنف زُرِع وترعرع ونما وأُغدقت عليه الأعطيات أولاً من قبل السلطة المستبدة. وبالتالي، وإن تم الإيمان والوثوق بأن الاستبداد لا يُقاوم بالعنف بالمطلق، إلا أن الكواكبي سرعان ما استدرك وأوضح بأن بلوغ الاستبداد درجة من الشراسة والعماء والعنف، لا يمكن له إلا أن يوّلد العنف في الطرف المقابل وهو الضحية المنتهكة حقوقها على أنواعها طوال عقود. كما المنتهكة حرمتها الجسدية من خلال الاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري كما الموت في مرحلة المواجهات الأولى سلمياً من طرفٍ واحد. بالتأكيد، هناك بعض من يريد أن ينفي حقيقة هذا الأمر حتى اللحظة، باحثاً عن تبريرٍ ما، يُرضي به ما تبقى من ضمير أو جزءٍ من ذكاء. ولكن الوقائع شاهدة والأرقام لها أسماء، والوثائق تُغرِقُ كل باحث جاد، بعيداً عن أي انتماء إيديولوجي أو مصلحة سياسية

فالفتنة التي أشار إليها الكواكبي إذاً، وقعت، وألمّت بالجميع ولم تقتصد أحداً في طريقها. والكلام ليس عن تحديد المسؤولية الواضحة بشكل جليّ، بل عن حصول واقعة الفتنة الواضحة أيضاً بشكل جلي. أما الابتعاد عن الفتنة المُشار إليه في المقطع المُنتخب، فهو لا يعني الاستقالة من المسؤولية الوطنية والإنسانية والأخلاقية والمواطنية، بل على العكس تماماً، هو ابتعاد عما تحمله هذه الفتنة من ثقافة عنفية تُغرق من يؤمن بها بالعماء الكامل الذي يُبعده عن تلمّس مصلحته في إطار المجموعة الإنسانية التي يتقاسم معها المكان. والابتعاد عن هذا كلّه يعني أيضاً العمل الحثيث على التأسيس الفكري والبرامجي والتعليمي والتثقيفي لمحاولة التأثير الإيجابي طويل الأمد بعيداً عن المصالح الآنية الضيقة. والابتعاد يكون أيضاً، في أضيق الأحوال، في محاولة ترشيد العمل العسكري في إطار مسؤولية سياسية وطنية تُبعِد العناصر التي لا تؤمن بسوريا الوطن حاضنة لجميع السوريات والسوريين، وتُقصي من ركب موجة الثورة لتنفيذ مشاريع إقليمية ذات صبغة ايديولوجية أو مجرد توسعية

هل هذا كلامٌ مثاليٌ يمكن له أن يبعث على السخرية ؟ لم لا، فالسخرية رياضة ذهنية يمكن لها أن تقدّم للمادة الدماغية شيئاً من الأوكسجين المساعد على التفكير. ولكنني أعتقد أكثر بواقعية هذا الكلام من مثاليته. فالابتعاد عملاً أفضل من الاقتراب مشاركة في الفتنة بمعانيها السلبية وليست بمعانيها المقاومة

« تأسيس العدالة » لا يكون بمن شارك في الفتنة، أي لا تكون بمن ساهم في المقتلة من الطرف البادئ والمُحرّض والمُنفّذ. وهو المستبد وزبانيته وزبائنه حُكماً وحصراً. وبالمقابل، لا يمكن أن تتم عملية تأسيس العدالة بالاعتماد أيضاً على من استغل الفرصة الذهبية ليكون أمير حرب مقتطعاً الأراضي ومتعهداً الحيوات كما أيام المغول ليعبث فيها وبأهلها وبثرواتها بحجج لم تعد تُقنع الفتى الرضيع. كما أنه قام، وفي بحثٍ عن تبريرٍ « ديني »، حجب النور عن العقل كما حجب السلاح عن الاتيان بالحرية المدنية ليحوّلها صراعاً يتقاسم مذهبيته مع مُطلقه. وصار شغله الشاغل تهيئة الهيمنة التي يحملها في نفسه المليئة بالانتظارات الذاتية محل الهيمنة السائدة والتي خرجت الجموع لتحديها ومقارعتها سلمياً بداية أو عسكرياً بشكل لاحق

حجز الحريات وانتهاك الأبدان وقطع الأرزاق صارت صفات يتقاسمها كثير ممن يشاركون في الفتنة إلى جانب أو في مواجهة المستبد، نظرياً على الأقل

والحكومة العادلة، التي ستنبثق مهما طال الانتظار المُعزّز بالسعي، لن تكون في أي حال من الأحوال عادلة لذكرى الشهداء ولحقوق الجرحى والمشردين، إن هي أعادت استنباط نماذج خلى ضميرها، كما عقيدتها وكما ممارستها، من الانتماء إلى وطن لا تحدده الشعارات ولا الأغاني. « حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة »

http://all4syria.info/Archive/234708