البغدادي وسافونارولا.. الموصل وفلورنسا – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 15 septembre 2014

مسألة فيها نظر، ولهذا فإنها استطراداً إشكالية قابلة للسجال، تلك المقارنة بين أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش» و»خليفة» آخر زمان، في مدينة الموصل العراقية، وجيرولامو سافونارولا، الراهب الطهوري المتشدد الذي عيّن نفسه دكتاتوراً أخلاقياً على مدينة فلورنسا الإيطالية، ابتداءً من 1494 وحتى 1498، حين أُعدم حرقاً، بمباركة صريحة من البابا ألكسندر السادس. المقارنة عقدها، مؤخراً، الأكاديمي العراقي ـ الأمريكي إبراهيم المراشي، الأستاذ المساعد في قسم التاريخ، بجامعة كاليفورنيا الحكومية.
جدير بالذكر أنّ المراشي هو صاحب مقالة شهيرة بعنوان «شبكة الاستخبارات والأمن في العراق: دليل وتحليل»، نُشرت بالإنكليزية في أيلول /سبتمبر 2002، حين كان مؤلفها طالباً في جامعة أكسفورد البريطانية. أمّا شهرة المقالة فقد صنعتها فضيحة كبرى مزدوجة: أولاً، رغم أنّ معلومات المراشي، في المقالة، كانت قديمة، عمرها 12 سنة، وبعضها صار مغلوطاً، فإنّ حكومة توني بلير سرقت منها ستّ فقرات كاملة، بالحرف، وبالأخطاء اللغوية، وضمتها إلى التقرير البريطاني/الفضيحة، حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، وثانياً، كانت الفقرات الستّ هي ذاتها، بالحرف، أمثلة كولن باول، وزير خارجية أمريكا يومذاك، في امتداح التقرير، والاتكاء عليه، خلال الخطبة أمام مجلس الأمن الدولي، مطلع 2003.
وفي العودة إلى المقارنة، يرى المراشي أنّ الموصل 2014، تحت سلطة البغدادي؛ هي بمثابة فلورنسا 1494، تحت سلطة سافونارولا: «كلاهما رأى منطقته نواة لدولة بدئية طهورية، واستخدما جيوش الشوارع لتطهير المدينتين من الآثام، ومن الفنّ والعمارة بوصفهما وثنية، وحرّما السلوك الذي عّدّ غير أخلاقي. وكلاهما خلقا أعداء أقوياء، واستُنكرا من زعماء تعرّض احتكارهم الديني للتحدّي، سواء البابا ألكسندر السادس من آل بورجيا، أو ملك السعودية خادم الحرمين الشريفين»، يكتب المراشي في مقالة بعنوان «حرب أوباما ومتغيّر الموصل»، نشرها مؤخراً الموقع الإنكليزي لقناة «الجزيرة».
الفارق، من جانب آخر، بين البغدادي وسافونارولا، حسب المراشي؛ هو أنّ الأخير، على نقيض الأوّل، لم يكن يسيطر على قوّة عسكرية منضبطة، اختُبرت في المعارك، ودبّت الرعب في المناطق التي بسطت نفوذها عليها، بل أبعد منها أيضاً. والأفكار اللاحقة في المقالة لا تعني هذه السطور، ضمن خطّ مناقشة المقارنة إياها، لأنّ المراشي يناقش ردود أفعال الموصليين إزاء وجود «داعش» في المدينة، مقارنة مع أجهزة نوري المالكي الأمنية والعسكرية، وما إذا كانت الحال ستتبدل عند استئناف الضربات الجوية الأمريكية على نطاق أوسع، ضمن استراتيجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما الجديدة.
والحال أنّ مقارنات من هذا الطراز، بين مجتمعات متباينة وأزمنة متباعدة وثقافات غير متطابقة في الحدود الدنيا، يمكن أن تسفر عن مزالق كثيرة، ومحاسن أقلّ بكثير من المساوىء. وهذه الأخيرة قد يكون بعضها منهجياً وتاريخياً، يتسبب في أضعف الأضرار أثراً، ولكن قد يكون بعضها سياسياً وثقافياً، وهنا فإنّ مظاهر التباين والتباعد وانعدام التطابق تتخذ صفات أخرى أدهى: كأنْ تعبّد الطرق، المتعرجة غالباً، نحو أنساق من الصدامات، «الحضارية» و»الدينية» و»القومية»… فعلية او متخيَّلة، بالغة الأذى في الظروف الهادئة، شبه الطبيعية، فكيف حين تكون الأجواء مدلهمة وصاخبة وعاصفة!
وهكذا، فإنّ ما تغفله مقارنة المراشي، ولعله أحد أهم الجوانب إذا أجاز المرء أيّ تناظر بين البغدادي وسافونارولا؛ هو أنّ عقائد الاثنين وممارساتهما في التحريم والتحليل كانت، رغم نهوضها على مبدأ مناهضة الأنظمة السياسية والسلطات الدينية، تؤدي خدمة ضمنية للحاكم في علاقته بالمحكوم: آل بورجيا، في أزمنة فلورنسا، وإيطاليا القرن الخامس عشر عموماً، وآل الأسد والمالكي في سوريا والعراق، مطلع القرن الحادي والعشرين. كان سافونارولا يجوب شوارع المدينة منذراً بخراب العالم ودنوّ الساعة: «تعساً لكم، يا نسل الأبالسة! لسوف يأتي يوم لا يتبقى فيه عدد من الأحياء يكفي لدفن الموتى!»، كان يهتف، وفرائص المؤمنين البسطاء ترتعد ذعراً. أمّا آل بورجيا، فقد كانوا يتابعون مباذلهم في قصور روما وأروقة الفاتيكان، فهم الأكثر سعادة بالعتمة الثقيلة التي يفرضها هذا المناخ على عقول وأبصار المؤمنين.
ولعلّ من حقّ المرء أن يقارن هكذا، أيضاً: كما كانت «دولة» سافونارولا الطهورية مقدّمة ضرورية لانطلاق الإصلاح في إيطاليا، كذلك فإنّ ظلمات «خلافة» البغدادي يمكن أن تكون عتبة ضرورية أمام الأنوار التي وعدت بها الانتفاضات الشعبية العربية. ولعلنا، إزاء الحال الراهنة، نرى أنفسنا في حلكة الليل، ولكنّ الفجر هو وحده الطالع!