محمد ناصيف: من قيعان «الحركة التصحيحية» وإليها – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 3 juillet 2015

محمد ناصيف: من قيعان «الحركة التصحيحية» وإليها – صبحي حديدي

Subhi Hadidi

م يكن المرض العضال، وحده، هو الذي حال دون مشاركة اللواء المتقاعد محمد ناصيف خير بك (1937 ـ 2015) في صياغة، والإشراف على تنفيذ، الأنساق الأشدّ فاشية في الحلّ الأمني الذي اعتمده نظام بشار الأسد ضدّ الانتفاضة الشعبية السورية، منذ الساعات الأولى لانطلاقتها. كان ناصيف، في سبب آخر، ابن مرحلة سالفة شيّد الأسد الأب ضوابطها ومعاييرها وشخوصها، وسعى الأسد الابن إلى تفكيك بعض عناصرها، حيثما استطاع؛ لأنها كانت مدعاة تقاطع، وتناقض أحياناً، مع ضوابطه هو، ومعاييره وشخوصه، من جهة أولى؛ ولأنّ قتل الأب (بمعنى استمرار سطوته حتى من داخل القبر، ودغدغة استيهامات الوريث حول «محبة الشعب» له شخصياً، بمعزل عن أبيه)، كان يقتضي، أيضاً، إزاحة بعض كبار رجالاته من المشهد.
سبب ثالث هو أنّ ناصيف انتمى إلى طراز من تركيب «القيادة» أقامه الأسد الأب على مبدأ الطاقم الأمني ـ العسكري ـ السياسي المتنوّع، والمتغاير على نحو دائم، من خارج العائلة الأسدية في الواجهة، أمثال محمد الخولي وعلي دوبا وعلي حيدر وحكمت الشهابي وشفيق فياض وابراهيم صافي وعلي الصالح ومحمد ناصيف وسليمان حداد (كانت حالة رفعت الأسد خاصة واستثنائية، اتضحت طبيعتها الانفجارية في كلّ حال)؛ ومدنيين من أمثال عبد الرحمن خليفاوي وعبد الحليم خدام وعبد الرؤوف الكسم ومحمد حيدر. أمّا الأسد الابن فإنه فضّل إحاطة القصر بالأخ والأخت والصهر والخال وابن الخال، فلم يتمتع فريقه العسكري ـ الأمني باتساق الأداء، على نحو ما اتصف به فريق الأب؛ كما أنّ فريقه المدني كان، دونما مفاجأة، على شاكلته في صناعة سياسة الهواة والنهب بطرائق أحطّ من أن تنتهجها المافيا.
ليس صحيحاً، استطراداً ـ وفي يقيني الشخصي، بالطبع، ولكن اتكاءً أيضاً على معطيات عديدة بيّنة ـ أنّ ناصيف لعب دوراً كبيراً، أو حاسماً، في ترسيخ نظام الأسد الابن؛ أكثر من، أو حتى في مستوى، الأدوار التي لعبها أمثال غازي كنعان وآصف شوكت وذو الهمة شاليش وحافظ مخلوف وجميل حسن وعلي مملوك ومحمد سلمان (العميد الذي اغتيل على شواطىء طرطوس). لعله، بالأحرى، لم يلعب إلا الدور المزدوج الذي اختاره له الأسد الابن نفسه: النصح، من باب الخبرة والحصيلة والعلاقات، حول الأطوار الجديدة من علاقة النظام مع «حزب الله» والشارع الشيعي اللبناني، وإيران الفقهية والسياسية (ولكن ليس إيران الأمنية، أو تلك التي تخصّ «الحرس الثوري»)؛ ثمّ الرقابة على النائب فاروق الشرع، من خلال استحداث المنصب العجيب «معاون نائب رئيس الجمهورية»، حيث توجّب ضبط «شطحات» الشرع في ملفات لبنان وإيران والولايات المتحدة تحديداً. أمّا الصلات الأهمّ، مع طهران و»حزب الله»، فقد ظلّ الأسد الابن يتولاها بنفسه عملياً، عبر ضباط يمارسون مهامّ السكرتاريا التنفيذية (على شاكلة رستم غزالي وجامع جامع)، أو تنسيق العمليات القذرة (كما فعل مملوك مع الوزير اللبناني ميشيل سماحة).
لكنه، في المقابل، وحتى من فراش المرض العضال، انتمى تماماً إلى الحلّ الأمني، ورفض بالتالي الانتساب إلى خيارَين بارزين تسيّدا مواقف «الحرس القديم»، وغالبيتهم من مساعدي الأسد الأب، تجاه خيارات الأسد الابن في قمع الانتفاضة. الخيار الأوّل مثّله رجالات وُضعوا على الرفّ أصلاً، سواء في عهد الأب أو في توريث الابن، وشاؤوا مغادرة سوريا، أو الاكتفاء بالصمت (دوبا وفياض)، أو ممارسة النقد الخفيف داخل مجالس العزاء بصفة خاصة (علي حيدر)، أو التعاون الشكلاني (الخولي). ورثة هؤلاء الرجالات، من أبنائهم البيولوجيين أو ظلالهم وورثتهم في مختلف الأجهزة الأمنية، لاقوا مصائر متباينة، من القتل في ميادين الحلّ الأمني (جامع) إلى التصفية المباشرة (غزالي)، ليس دون المرور على التقاعد القسري وتقزيم الموقع (بهجت سليمان)…
الخيار الثاني مثّلته واجهة، مدنية وبعثية في المقام الأوّل، عكست حال الخوف من الماضي والقلق من المستقبل، واقتراح بدائل إصلاحية لا تخدش مقام «الرئاسة». في عداد هؤلاء كان محمد سلمان (وزير إعلام سابق، ابن القرداحة)، ومحمد نهاد مشنطط (وزير سابق)، عماش جديع (وزير ومحافظ سابق)، مروان حبش (وزير وعضو قيادة قطرية سابق)، محمود جيوش (وزير سابق)، عادل نعيسة (عضو قيادة قطرية سابق)، وفيق عرنوس (أمين فرع حزب سابق)، أمين أبو الشامات (وزير سابق)، نظمي فلوح (معاون وزير سابق)، حسين عماش (رئيس سابق لهيئة مكافحة البطالة)، سليمان العلي (وزير سابق)، ناظم قدور (وزير سابق) وعلي سليمان (معاون وزير سابق)…
ومجدداً، صبيحة اغتيال رفيق الحريري (وذاك كان تطوّراً نوعياً حاسماً في سنوات حكم الأسد الابن)؛ كانت «القيادة السورية» ـ والمزدوجات، هنا، مردّها غموض التعبير، وطابعه الاصطلاحي غير المتجسد في الواقع العملي ـ تتألف من الأسد، وشقيقه ماهر، واللواء غازي كنعان وزير الداخلية آنذاك، واللواء آصف شوكت رئيس الاستخبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان الرجل الأقوى في جهاز أمن الدولة، وعبد الحليم خدّام النائب الأوّل للرئاسة والمدنيّ الوحيد في الرهط. فيما بعد، انتُحر كنعان (إذا جاز هذا الاشتقاق!)؛ وانشقّ خدّام (إذا جاز تصنيف عزله، وقفزه من المركب الغارق، انشقاقاً!)؛ واغتيل شوكت (والتاريخ كفيل بكشف ملابسات اغتياله، بيد النظام أغلب الظنّ)؛ وخُسف سليمان إلى مرتبة سفير، في العاصمة الأردنية عمّان…
وفي مناسبة مقتل اللواء جامع أنور جامع، في دير الزور خريف 2013، نشرتُ مقالة في هذه الصحيفة، سار عنوانها هكذا: «.. والدور على رستم غزالي!»؛ اعتبرت، في سطورها، أنّ ولاء ضبّاط الصفّ الثاني في نظام الأسد (من أمثال جامع وغزالي واللواء عصام زهر الدين) ليس عاصماً لأيّ منهم، بصرف النظر عن رتبته العسكرية أو موقعه الميداني أو حتى أصوله الدينية أو الطائفية أو الإثنية، من جولات التصفية الناجمة عن خلافات هنا أو هناك، حول اقتسام المغانم أو المسّ بالتوازنات أو التطلّع إلى موقع الصفّ الأوّل… حين يصبح وجود الضابط، رغم أنه مطيع موالٍ قانع مدافع، خطراً على هذه أو تلك من معادلات منجاة النظام. لم أكن أتنبأ، قطعاً، بل كنت أقرأ بعض المعطيات التي يقدّمها تراث «الحركة التصحيحية» ذاته؛ إذْ لم يكن مستبعداً احتمال تورّط النظام ذاته في تصفية ضابط كان أميناً على كثير من أسرار السلطة في لبنان، وفي رأسها خفايا اغتيال الحريري.
الأرجح أنّ جامع، وقبله غزالي، تتلمذا على يد ناصيف، أكثر من تتلمذهم في مدارس كنعان أو دوبا أو الخولي؛ وإذْ كان قد رحل عن مرض عضال، وليس اغتيالاً أو انتحاراً، فإنّ غيابه يطوي صفحة طراز خاصّ من رجالات «الحركة التصحيحية»، كانوا تروساً أساسية في عجلات الاستبداد الداخلية (لم يعفّ ناصيف، رغم انشغاله بملفات محمد مهدي شمس الدين وصبحي الطفيلي وعباس الموسوي وحسن نصر الله و»الحرس الثوري» الإيراني»، عن الإشراف شخصياً على جلسات تعذيب المعتقلين السياسيين، خلال إدارته للفرع 251، أحد أشدّ فروع مخابرات أمن الدولة وحشيةً وهمجية)؛ لكنهم خدموا النظام على أصعدة خارجية، أيضاً، بطرائق سياسية خبيثة، ذرائعية بالمعنى الأسوأ للتعبير، ودون أدنى اكتراث بالعواقب اللاوطنية لتلك الخدمات.
رحل ناصيف منتمياً، إذاً، إلى إرث الاستبداد والفساد، ومتعطشاً إلى صياغة الطور الأحدث من فاشية النظام، سعيداً ـ حتى النشوة، ربما ـ بالتمرّغ في قيعان «الحركة التصحيحية»، إحدى أكثر مزابل التاريخ بشاعة ودموية.

http://www.alquds.co.uk/?p=366641