أخطاء شائعة عن الثورة السورية – عمر قدور
تتقاطع غالبية الآراء المؤيدة للثورة السورية على أن المآل الذي وصلت إليه أسوأ مما كان يمكن تخيله إطلاقاً مع انطلاقتها، وفيما لا تخفي بعض الآراء يأسها من الثورة يذهب بعضها الآخر إلى القول بانتهائها عملياً، وإلى الإقرار تالياً بأن ما يجري الآن لا يمت بصلة إليها بمقدار ما يمثّل صراعاً للمصالح الخارجية والداخلية المعقدة. الهوة الشاسعة بين التمنيات والواقع تشجع على إعلان الفشل أو اليأس، وكذلك الأمر من جهة المقارنة بين بداية الثورة ومُثُلها التي توارت في خضم الحرب الدائرة، بخاصة مع المتغيرات التي شهدها هذا العام وبروز المجموعات المتطرفة وسيطرتها على العديد من المناطق المحررة.
في البحث عن أسباب الفشل ثمة مقولات شاعت، بعضها يلوم أداء الثورة وبعضها الآخر يبرر لها تعثرها، ومع أن الوقائع قالت كلمتها إلا أن الجدل حولها لم ينقطع في أوساط مثقفي الثورة ومؤيديها ومتابعيها. بل مع مضي الوقت، وعدم وجود آفاق للحل أو الحسم، استقرت النقاشات على نمط محدد لا يبدو أنه يتحرى جيداً إمكان نجاح الثورة أصلاً.
من الأخطاء الشائعة أن الثورة فشلت في استقطاب جمهورها المحلي المفترض، بخاصة في استقطاب جمهور الأقليات الذي يستخدمه النظام. هذا المأخذ عليها يحمّلها مسؤولية الاستقطاب الحاد في الشارع السوري، لكنه أولاً يبني على وجود تطلعات مشتركة لدى عموم السوريين، أو على إمكان خلقها أثناء الثورة. على المنوال ذاته، يمكن الزعم بأن الثورة فشلت في مخاطبة الخارج، تحديداً القوى الدولية الكبرى المنخرطة في المنطقة، وفي حسابات محض تسويقية يظهر أن ممثليها أخفقوا في لعبة المصالح الكبرى ومن المنطقي أن يدفعوا ثمن إخفاقهم.
ليس لأنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، ولكن يجوز لنا الدفع بالسؤال المقابل: هل كانت الثورة تمتلك فرص النجاح وفق التصورات السابقة وأهدرتها فعلاً؟ أم أن فرصها، كثورة ديموقراطية عامة، محدودة أو شبه معدومة؟
أصدر ناشطو الثورة بدايةً إشارات كثيرة لطمأنة الأقليات، شعار «الشعب السوري واحد» الذي رُفع في غالبية التظاهرات لم يكن يعبّر حقاً إلا عن أمنياتهم، ولم يكن يشي إلا بالنقيض الذي يخشون منه، النقيض الذي أثبتت الأحداث صوابيته أكثر مما هو متوقع. انطلاقاً من هنا قد نقول إن أول الأخطاء ليس في عجز الثوار عن إعطاء تطمينات. الخلل هو أصلاً في فكرة الحاجة إلى تطمينات، وقد يكون الخلل في أن أهداف الثورة المعلنة لا تلبي مصالح الأقليات بمقدار ما يلبيها النظام الحالي. سيكون خطأ إضافياً أن نجادل هنا بأن الأقليات غير واعية لمصالحها الحقيقية، وبأنها ضحية دعاية النظام، وبأن دعاية قوية مضادة كفيلة بتغيير مزاجها. مثل هذا القول يقسر الوقائع على مقاس الحجج النظرية، وينظر بتبسيط شـديد إلى كـيفية تشـكل المزاج العام والإرث المبني عليه.
على سبيل المقارنة، لم تنجح أي ثورة عراقية في القضاء على حكم «البعث»، ولم تنجح أصلاً في أن تكون ثورة شعبية عامة. في لبنان أيضاً يجوز لنا أن نسترجع التفسير اليساري الكلاسيكي الذي يرد الحرب الأهلية الأخيرة إلى اتفاق ضمني بين زعماء الطوائف على الإطاحة بمقدمات ثورة شعبية عابرة للطوائف، وإذا كنا لا نتبنى هذا التفسير فإن استقرار الانقسام اللبناني والتسليم به يدلان حالياً على اليأس شبه المطلق من إمكانية التغيير لدى التيار المدني الضعيف.
التذرع باختلاف سورية عن العراق ولبنان، لوجود أكثرية صريحة فيها، يقفز على مفاتيح القوة التي لم تعد تملكها الأكثرية، ولم تستطع أيضاً امتلاكها أثناء الثورة. تحول مفاتيح القوة في العراق ولبنان يدلل أيضاً على عدم كفاية العامل الديموغرافي. ففي العراق انتقلت مفاتيح السلطة بعد التدخل الأميركي، وصار واضحاً استضعاف أقوياء الأمس من قبل ضعفائه، أما في لبنان فلم يصبح للطائفة الشيعية هذا الوزن السياسي «المؤثر والمعطّل» إلا بواسطة سلاح «حزب الله» والدعم المالي المنتظم الذي يتلقاه من إيران، فلم يعد الحزب دولة ضمن الدولة وإنما دولة على حساب فتات الدولة.
قد لا نجازف بالقول إن الأفق مسدود الآن أمام أي ثورة شعبية ديموقراطية في الدول الثلاث، لأن الجماعات المذهبية والإثنية المنضوية في مجتمعاتها غير جاهزة لذلك، ومن القوة «العصبية» بحيث لا تسمح لأفرادها عموماً بالذهاب في مشروع وطني ديموقراطي. في سورية لم يكن الأمر بارزاً على هذا النحو إلى أن كشفت الثورة الغطاء عنه، ولم يكن تعرّض الناشطين المعارضين الذين ينحدرون من الأقليات لإرهاب «جماعتهم» سوى دليل على الرسوخ غير المرئي سابقاً للجماعات السورية.
للبنان أسبقية واضحة في هذا المضمار، فترسيخ الجماعات الداخلية يقتضي التحلل من الإطار الوطني، ومن ذلك انتفاء السياسة الخارجية الوطنية حيث تصبح لكل جماعة سياستها وارتباطاتها الخارجية الخاصة. استقواء السوريين، والنظام أولاً، بحلفاء خارجيين ليس بدعة سورية، ولا يعني (كما يحاول بعضهم تبسيطه) الارتهان لأجندات خارجية بمقدار ما يعبّر عن افتراق المصالح الداخلية، وعن بداية مأسسة الجماعات، أي أنه لا يتعلق فقط بحالة الصراع الراهنة، وقد يشكّل حالة تصعب العودة عنها في ما بعد.
مع الدعم اللامحدود الذي يلقاه النظام من حلفائه الخارجيين، لم يكن أمام الثورة ترف اختيار أصدقائها، ولا يصحّ القول إنها أخطأت في مخاطبتهم إذ من المعلوم أن تشكيل الأطر السياسية لها لم يكن بعيداً أساساً عن «تدبير» الأصدقاء، وأن يخذلوها فأمر يعود أولاً إلى الحسابات الدولية والإقليمية، وإلى التوازنات التي لا يتحمس أحد لخلخلتها في عموم المنطقة. للثورة أخطاؤها التي لا يمكن تجاهلها على صعيد إدارة شؤونها الداخلية، المدنية والعسكرية، غير أن النقاش في تلك الأخطاء يختلف كلياً عن الانتقادات التي توجه إليها في خصوص علاقتها ببقية الداخل السوري أو بالخارج، لأنها هنا محكومة باعتبارات تفوق طاقتها. ومن السذاجة القول بوجود فرصة أُهدرت، وإن كانت ثمة فرصة مُضيّعة فالمسؤول عنها هم الذين انقسموا منذ البداية بين مشكك فيها ومضاد لها. هؤلاء حتى اليوم لا يرون أنهم أضاعوا شيئاً.