أسد في عرسال! -صبحي حديدي
تتسرّب اليوم تقارير صحفية تفيد بأنّ ‘حزب الله’، بإيعاز من طهران، وإذعان من النظام السوري؛ ينوي اعتماد ستراتيجية جديدة (لعلها، أيضاً، محض تكتيك عابر، أقرب إلى المناورة المكشوفة)، للانتشار السرّي في الجولان المحتلّ، وتنفيذ عمليات تحرّش بجيش الاحتلال الإسرائيلي، على غرار زرع العبوة الناسفة التي استدعت قيام الطيران الإسرائيلي بشنّ أربع غارات جوية انتقامية ضدّ اللواء 90. ومن الضروري، هنا، التشديد على مفردة ‘تحرّش’، لأنّ هذه هي الحدود القصوى لستراتيجية الحزب المزعومة؛ وهي، بالتالي، لا تشبه القتال المباشر الذي خاضه، ويخوضه، مقاتلو حسن نصر الله في القصير ويبرود وضواحي دمشق وريف حلب.
لكنّ الحال تذكّر بإشكالية قديمة ظلّت على الدوام واحدة من المظاهر الأبرز لإرث الازدواج الكلاسيكي الفاضح الذي اقترن بتاريخ ‘الحركة التصحيحية’، كما ابتدأها حافظ الأسد وتابعها وريثه بشار: أي رفع رايات ‘الممانعة’ و’المقاومة’، والجعجعة فيهما وعنهما صباح مساء، من جهة؛ والتواطؤ مع إسرائيل على النقيض، أي سلام الأمر الواقع، من جهة ثانية. والمرء، بادىء ذي بدء، يستذكر ‘فلسفة’ تطبيع شهيرة أطلقها الأسد الابن، قبل وقت ليس ببعيد أبداً، في تصريح إلى صحيفة ‘حرييت’ التركية؛ بأنّ نظامه يرحّب بتحسين العلاقات بينتركيا وإسرائيل، وفق قاعدة القياس التالية: ‘إذا رغبت تركيا في مساعدتنا في موضوع إسرائيل، فينبغي أن تكون لها علاقات جيدة مع هذه الدولة’؛ وإلا: ‘كيف يمكنها، في حال العكس، أن تلعب دوراً في عملية السلام ‘في الشرق الأوسط؟’.
تُستذكر حكاية أخرى، لأنها ذات دلالات تخصّ لبنان عموماً، و’حزب الله’ خصوصاً. ففي أواخر العام 2009، كانت الطائرة الخاصة للمخرج الأمريكي الشهير فرنسيس فورد كوبولا تهمّ بالهبوط في مطار بيروت، للمشاركة في مهرجان سينمائي يعرض فيلمه الجديد ‘تيترو’؛ حين تبيّنت سلطات المطار أنّ عدداً من قطع غيار الطائرة صُنعت في إسرائيل، فمُنعت من الهبوط تنفيذاً لبنود صريحة ضمن اتفاقيات مقاطعة إسرائيل. ولقد تفتّق ذهن صاحب ‘العرّاب’ عن حلّ عملي ـ ذرائعي أو مافيوزي، سواء بسواء ـ فأجرى اتصالاً من الجوّ مع بشار الأسد، الذي أمر بأن تهبط الطائرة في دمشق، ثمّ انتقل كوبولا بعدها إلى بيروت في طائرة أخرى، بعد وليمة رئاسية دافئة حضرتها أسماء الأسد، وكانت في حينه ما تزال تتمتع بلقب ‘وردة الصحراء’ الذي أسبغته عليها مجلة ‘فوغ’.
في قراءة أخرى للواقعة، اتضح أنّ بيروت، أو بالأحرى الجهة الأمنية التي تبسط نفوذها على المطـــــار، والمقرّبة من ‘حزب الله’ كما يتردد عادة، سلكت مسلكاً قانونياً صرفاً من جانب أوّل، يخصّ الالتزام بتعليمات مقاطعة إسرائيـــل؛ كما اتخذت، من جانب ثانٍ، خطوة تصحّ فيها صفة الممانعة، أو الرفض، أو التذكير بالسيادة الوطنية. وفي المقابل، وليس هذا سوى الاستطراد المنطقي، اتخذ الأسد قراراً نقيضاً، من حيث جانبَيْ الواقعة؛ فلا هو التزم بالقرارات العربية، ولا هو مانع أو امتنع، فضلاً عن أنه لم يحرص حتى على حفظ ماء وجه الممانعين في مطار بيروت.
مكسب الأسد، في المقابل، كان خبر علاقات عامة تافهاً، تناقلته بعض وسائل الإعلام الأمريكية؛ وتصريحاً منافقاً من كوبولا، من قبيل ردّ المعروف، جاء فيه: ‘لقد شعرنا بدفء الاستقبال، ومَن التقينا بهم كانوا لطفاء وكرماء. المدينة [دمشق] ساحرة لأسباب عديدة، تخصّ التاريخ. والطعام بديع. والرئيس، مع عقيلته وأسرته، اتصفوا بالوضوح والأنس والقدرة على الحديث في مستويات عديدة. وبهذه الطريقة أقنعني أنّ الرؤيا التي يحملها عن البلد إيجابية’. وبالطبع، لا ينتظر المرء من هذا الزائر بالذات، في سياقات زيارة على تلك الشاكلة تحديداً، أن يشير إلى حقوق الإنسان، أو الجمهورية الوراثية، أو… حال وأحوال السينما السورية، في أقلّ تقدير.
اللافت، في المقابل، هو تناقضات مواقف الأسد من العمل العربي المشترك: هاهنا يخرق أبسط مبادىء ذلك العمل، أو ما تبقى منه في سلّة القرارات العتيقة، فلا يكترث البتة بقواعد مقاطعة الصناعة الإسرائيلية؛ وهاهنا أيضاً، في دمشق إياها، عند افتتاح ما يُسمّى ‘مؤتمر الأحزاب العربية’، يلحّ على التضامن العربي ويطري شعار المؤتمر: القرار العربي المستقلّ. فإذا كان الإخلال صريحاً على هذا النحو بقرارات هي أضعف الإيمان في ممارسة الممانعة (والعاصمة السورية هي التي استضافت المؤتمر الأخير، الـ83، لضباط اتصال المكاتب الإقليمية العربية لمقاطعة إسرائيل، حيث جرى التركيز على الشركات العالمية التي تساهم في توسيع المستوطنات، وليس على منتجات الدولة العبرية وحدها)؛ فكيف يحقّ لنا أن نحثّ المجتمع الدولي على الانضمام إلينا، في تطبيق تلك المقاطعة؟
وفي انتظار أن تتضح ملامح ستراتيجية ‘الممانعة’ الجديدة في الجولان، أو تُطوى قبل أن تبدأ لأنها تفترض اللعب بالنار، تصلح طائرة كوبولا نموذجاً معبّراً عن طراز ‘المقاومة’ الذي يحلو للنظام أن يمارسه بين حين وآخر؛ على الأرض بالطبع، ولكن في السماء أيضاً (كما حين تحلّق الطائرات الإسرائيلية فوق القصور الرئاسية، أو حين تقصف وتعربد أنى وكيفما شاءت)؛ أو، أساساً، حيث لا يُشقّ للنظام غبار، ضدّ قدسيا والمعضمية ودرعا وحلب ودير الزور، و… عرسال!