استخبارات الغرب وأجهزة النظام السوري: تعاون عتيق لا يمرّ عليه الزمن! صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 17 janvier 2014

بدا طبيعياً أن يجري تلقّف التقرير الذي نشرته، قبل أيام، صحيفة ‘وول ستريت جورنال’ الأمريكية؛ حول اجتماعات سرّية عقدها ممثّلون عن استخبارات أوروبية (فرنسية وبريطانية وإسبانية وألمانية…)، مع ضبّاط أمن في النظام السوري، قيل إنّ اللواء علي مملوك، رئيس ما يُسمّى ‘مكتب الأمن الوطني’، كان في عداد هؤلاء. ورغم أنّ جميع هذه الأطراف رفضت التعليق على التقرير، طبقاً لما أوردته الصحيفة، فإنّ هذه المعلومات تلقّت سنداً من طرف غير منتظَر، إذْ ليس له صلة مباشرة بالاجتماعات، هو فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام؛ الذي تبرّع بتصريح لهيئة الإذاعة البريطانية، مفاده أنّ ‘وكالات استخبارات غربية زارت دمشق لإجراء محادثات حول مكافحة الجماعات الإسلامية المتطرفة’.
لافت، إلى هذا، أنّ المقداد لم يفوّت فرصة التذاكي، جرياً على عادته الأثيرة، فكشف للعالم عن سرّ خطير، لم يسبق لأحد قبله أن كشف النقاب عنه: ‘هناك خلاف في المواقف بين المسؤولين الأمنيين الغربيين وبين السياسيين’، حول مطالبة الأسد بالتنحي عن السلطة؛ الأمر الذي يُفهم منه أنّ الساسة في واد، ورجال الأمن في واد، من جهة أولى؛ وأنّ الفريق الثاني يمكن ان يعمل باستقلال عن الفريق الأوّل، من جهة ثانية؛ وكأنّ الاستخبارات الفرنسية أو البريطانية أو الألمانية لها سلطة القرار على القيادة السياسية المدنية، تماماً كما هي الحال في ‘جمهراثية’ آل الأسد في سورية! نسق التفكير الرغبوي السقيم هذا، يقود المقداد إلى ترجيح قيام بعض الدول الغربية بإعادة دبلوماسييها إلى دمشق، استناداً إلى تقديرات رجال الأمن، وليس إلى الاعتبارات الدبلوماسية التي يعتمدها الساسة!
والحال أنّ تلك الاجتماعات قد تكون عُقدت بالفعل، وبحثت في أيّ شأن يخصّ الامن الداخلي في تلك الدول، وخاصة تزايد اعداد ‘الجهاديين’ حاملي الجنسيات الاوروبية داخل صفوف المعارضة الإسلامية المسلحة في سوريا. لا عجب في هذا، فالأمر حاسم بالنسبة إلى هذه الدول؛ إلى درجة أنّ الرئيس الفرنسي فرنسوا اولاند زاود على تقرير ‘وول ستريت جورنال’، فأشار إلى 600 مقاتل إسلامي فرنسي، مقابل 400 حسب إحصائية الصحيفة الأمريكية. لا عجب، ولا جديد أيضاً في اجتماعات مثل هذه، لأنها لم تنقطع أبداً مع أجهزة النظام السوري، طيلة عقود حكم آل الأسد، الأب أسوة بوريثه الابن. وكان روبرت ج. رابيل قد فصّل وقائعها، في كتابه ‘سوريا، الولايات المتحدة، والحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط’؛ وبرهنت السنوات والأشهر على أنّ التعاون بين النظام السوري والغرب، ثمّ الولايات المتحدة خصيصاً، صار نسقاً ثابتاً أقرب إلى التحالف الاستخباراتي غير المعلَن.
ليس سرّاً، وليس البتة من باب الاكتشاف، أنّ أجهزة الاستخبارات الغربية، على شاكلة الساسة الغربيين في الواقع، كانت تفضّل بقاء أمثال زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن؛ وأنها، اليوم أيضاً، تفضّل بقاء الأسد على رأس نظام توريث واستبداد وفساد، لا يحفظ عهداً مثل الحفاظ على أمن إسرائيل، وينخرط في ‘ما يُسمّى الحملة على الإرهاب’ مثل أيّ بيدق مسيّر. ليس سرّاً، في المقابل، أنّ رياح الانتفاضات العربية لم تأتِ بما اشتهت سفن الغرب، وأنّ الإرادات الشعبية الساعية إلى التغيير كانت الفيصل في نهاية المطاف، ولم يكن في وسع الساسة، أو أجهزة الاستخبارات، إلا الانحناء أمامها، ريثما يتمّ تدبّر ستراتيجيات المخارج، ساعة تنفتح آفاقها.
ومتى كانت جديدة حكاية الكيل بمكيالين، أو النطق بخطابين، واحد علني يزعم عبادة حقوق الإنسان، وآخر سرّي يبطن صداقة المستبدّ والاستبداد؟ قبل هيلاري كلينتون وجون كيري الآن، هل ننسى تلك البرهة الفاضحة، حين طالبت كوندوليزا رايس بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور، علانية وخلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي؛ قبيل اجتماعها مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، بينهم اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة المصرية آنذاك؟ للوهلة الأولى لاح أنّ التناقض جليّ واضح، بل صارخ فاضح ربما، بين مطالبة بإطلاق سراح ناشط معارض، ثمّ الاجتماع مع سجّانيه؛ أو بين المهمّة السياسية ـ الدبلوماسية التي تتولاها وزيرة الخارجية، والمهامّ الأمنية الاستخباراتية التي يتولاها سليمان. غير أنّ الوهلة التالية المباشرة، التي تتخذ شكل تتمة منطقية صارت شائعة مكرورة، هي أنّ صانع التناقض وجامعه في آن معاً، كان المبدأ الذرائعي الذي يسعى إلى محاربة الإرهاب بيد، ويتعاون على نحو وثيق مع أنظمة الاستبداد باليد الأخرى.
برهة أخرى، هي المواقف المتناقضة للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان قد استبق اجتماع ‘أصدقاء سورية 3′، في باريس، بتصريح ‘شديد اللهجة’، وفق ما تصنّف الرطانة الدبلوماسية عادة، أعلن فيه أنّ بشار الأسد ‘يكذب’، و’يريد محو حمص من الخريطة’، على غرار ‘رغبة الدكتاتور الليبي معمّر القذافي في ‘تدمير بنغازي’؛ ولهذا أرادت فرنسا دعوة ‘كلّ مَنْ لا يطيقون رؤية دكتاتور يقتل شعبه’. وإذا جاز القول بأنّ ذلك التصريح لم يكن مفاجئاً تماماً، بالمقارنة مع تصريحات أخرى تصعيدية أطلقها ساركوزي في مناسبات سابقة، خاصة حين انطلقت حملته الرسمية للانتخابات الرئاسة؛ فإنّ ما لم يكن جائزاً هو الجزم بأنّ جميع المشاركين في الاجتماع كانوا يطيقون سقوط النظام السوري، بسبب أنهم لا يطيقون ما يرتكبه الأسد من مجازر. نسبية الأمر هنا لم تخفَ إلا على السذّج، والأجندات ـ على كثرتها، وتطابقها هنا، أو تناقضها هناك ـ لم تكن تنهض على التعاطف مع الشعب القتيل، بقدر ما كانت تقتفي أثر المصالح الحية التي يُخشى عليها من أن تُقتل!
لكنّ ساركوزي كان السبّاق، على نطاق الاتحاد الأوروبي، إلى تدشين سياسة حوار مع النظام السوري صيف سنة 2008، بذريعة مشروع ‘الاتحاد المتوسطي’، الذي وُلد ميتاً في الأصل، ولم يكترث أحد حتى بدفنه! آنذاك برّر ساركوزي دعوة الأسد (وكان عندئذ، مثلما كان في البدء ويظلّ حتى ساعة سقوطه، دكتاتوراً ابن دكتاتور)، بالقول إنّ سورية بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة (في حدود علمه كما قال، وفي علم الجميع كما نقول) لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي كان سيعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الاحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، ما دام الحابل اختلط يومها بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل… ‘واحة الديمقراطية’ في الشرق الأوسط؟
ولأنّ الانتفاضة السورية كانت، بدورها، قراراً شعبياً في المقام الأوّل؛ ولم تكن، في قليل أو كثير، نتاج تخطيط أجهزة استخباراتية غربية، أو رغبة ساسة سابقين أو حاضرين؛ فإنها في حاضرها، وفي زخمها، وانتصاراتها مثل انتكاساتها، لن تكون رهن أيّ تنسيق، عتيق متجدد، تسفر عنه الاجتماعات التي رجحتها ‘وول ستريت جورنال’. ولعلّ الانتفاضة السورية بحاجة، اليوم كما في الأمس، إلى اتقاء شرّ الكثير من أصدقائها، لأنها ببساطة تكفّلت وما تزال تتكفّل بأعدائها: النظام، بطغمته الضيقة وأجهزته وعسكره وشبّيحته، في الداخل؛ وحلفاء النظام، على اختلاف راياتهم ‘الممانِعة’ و’المقاوِمة’، أو ما يذرفونه من دموع كاذبة على ‘قلب العروبة النابض’، في الخارج.
أوّل هؤلاء ‘الأصدقاء’ هم سدنة ما يُسمّى ‘المجتمع الدولي’، قادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وسواهم، ممّن كانوا، أو كان أسلافهم قبلهم، في طليعة مساندي نظام ‘الحركة التصحيحية’، أي انقلاب الأسد الأب سنة 1970، وتوريث الأسد الابن سنة 2000، وعلى امتداد محطات كثيرة ومنعطفات كبرى في تاريخ المنطقة المعاصر: من اتفاقية سعسع، 1974، مع إسرائيل؛ إلى التدخل العسكري في لبنان، 1976؛ إلى الحرب ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، والإجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ومجزرة تلّ الزعتر؛ وصولاً إلى الإنضواء تحت الراية العسكرية الأمريكية في تحالف ‘حفر الباطن’، والمشاركة في مؤتمر مدريد، والمفاوضات مع إسرائيل سرّاً أو علانية، في شبردزتاون وكامب دافيد وعمّان وأنقرة…
سدنة ‘المجتمع الدولي’ هؤلاء، وأسلافهم، سكتوا عن عشرات المجازر التي ارتكبها النظام السوري، في حماة وتدمر وحلب وجسر الشغور ودير الزور واللاذقية وحمص، وسقط خلالها عشرات الآلاف من الأبرياء، خلال سنوات 1979 ـ 1982؛ بل تعاقدوا على تشجيعها ضمناً لأنّ التفكير الذرائعي كان يبرّرها على هذا النحو: معركة ضدّ الإسلاميين يخوضها نظام دكتاتوري استبدادي فاسد، يقصف المدن ويسفك الدماء ويحرق الأرض، ولكنه ‘علماني’ و’مستقرّ’ و’مرن’؛ وأرضه تحتلها إسرائيل، ولكنّ خطوط الاحتلال صامتة خرساء آمنة؛ ويبسط نفوذه على كامل الأراضي اللبنانية، وهو خطّ إمداد ‘حزب الله’ بالسلاح الإيراني، ولكنه في نهاية النهار يقوم بمهامّنا هناك، ويلبّي حاجات حلفائنا، على أحسن وجه، وبأفضل ممّا نستطيع نحن!
جليّ أنّ ضغط الرأي العام الشعبي في هذه البلدان ـ خاصة بعد افتضاح ممارسات النظام الوحشية ضدّ الحراك الشعبي الأعزل والسلمي، وانتقال النظام إلى الخيارات القصوى في محاولة قمع الانتفاضة ـ هو الذي أجبر حكوماتها على اتخاذ هذا الموقف أو ذاك من النظام السوري، واعتماد عقوبات ذات تأثير محدود أو منعدم أو شكلاني محض. ضغط شعبي مماثل، في الشارع العربي، أجبر بعض الحكومات العربية على إعلان مواقف خجولة، طافحة بنفاق الحثّ على ‘حقن الدماء’، على نحو يضع الضحية والجلاّد في مصافّ متساوية؛ وهؤلاء هم النمط الثاني من ‘أصدقاء’ الإنتفاضة السورية، أعداء الديمقراطية في بلدانهم، وكارهي الحرّية في كلّ زمان ومكان.
فليجتمعوا، إذاً، مع أمثال علي مملوك وجميل حسن وعلي يونس ورستم غزالي… لا الاجتماعات سوف توقف تدفق ‘الجهاديين’ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا، إلى سورية؛ ولا هي ستُقعد الانتفاضة الشعبية عن المضيّ في مهامها ضدّ النظام، وضدّ مَن يواليه سرّاً أو علانية. تعاون قديم عتيق يتجدد، لا يمرّ عليه الزمن إلا بمعنى ارتفاع اليد العليا لتجارب الشعوب وآمالها وآلامها، التي أفسدت مراراً ذلك الزواج البذيء بين الديمقراطيات الغربية وأنظمة الاستبداد والفساد؛ حيث يمرّ الزمن بالفعل، ويكون تاريخياً حقاً.