الضربة الامريكية: تقليم أظافر الاسد وليس اقتلاع براثنه – صبحي حديدي
إذا وقعت ضربة عسكرية أمريكية ضدّ النظام السوري، بمشاركة بريطانية أو فرنسية أو تركية، وربما أطلسية مباشرة أو مقنّعة؛ فالأرجح أنها لن تكون، من حيث نطاق الأهداف وطبيعتها، أو مدّة العمليات العسكرية، أشدّ من عملية ‘ثعلب الصحراء’، التي نفّذتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وحليفها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ضدّ نظام صدّام حسين، في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 1998. ذلك رأي ساجلتُ فيه منذ الساعات الأولى لابتداء خطاب التسخين اللفظي العسكري على لسان الناطقين باسم البيت الأبيض، وقبل خطاب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي ألقى على نظام بشار الأسد مسؤولية استخدام الأسلحة الكيميائية، واعتبرها ‘بذاءة أخلاقية’؛ وكذلك، بالطبع، قبل تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه، التي خفّضت سقوف البلاغة، وحدها، وأبقت ميادين الإدارة مشرّعة لقرع طبول الحرب.
وإذا صحّ أنّ تسعة أعشار أنماط التدخّل العسكري الأجنبي في شؤون الشعوب تُصنّف، بدورها، في خانة ‘البذاءة الأخلاقية’ التي تحدّث عنها كيري؛ إلى جانب مضامين أخرى لا تقلّ بذاءة، حول افتراض دور الشرطي الكوني المخوّل ذاتياً، بعد التذرّع بأسباب ‘أخلاقية’ و’إنسانية’، بوضع حدّ لعذابات الشعوب؛ وهو دور ينتهي، غالباً، إلى سياسات الكيل بمكاييل عديدة، لا مكيالين اثنين فقط (وموقف أمريكا، والغرب عموماً، من إسرائيل هو المثال الكلاسيكي)؛ فالصحيح الموازي يشير إلى أنّ أنماط التدخل العسكري الأمريكي، كافة، كانت الأسوأ بلا استثناء، أينما وقعت على خريطة الكون عموماً، وحيثما وقعت في بلدان العالمَين العربي والإسلامي خصوصاً. والتاريخ سجّل، بالدماء والأشلاء والخراب والعواقب بعيدة المدى وشديدة الأذى، سلسلة المآلات الكارثية التي انتهت إليها وقائع التدخل العسكري الأمريكي المباشر في الصومال والعراق وأفغانستان وليبيا، فضلاً عن أنماط التدخّل الأخرى الكثيرة وغير المباشرة.
ما يصحّ حول التدخل العسكري، المباشر أو غير المباشر، يصبح أكثر صحّة في العمليات على شاكلة ‘ثعلب الصحراء’، التي تستهدف إنزال العقاب بطاغية ما، ليس بهدف الحدّ من شدّة بطشه بشعبه، أو ردعه، أو كفّ يده بما يتيح لذلك الشعب فرصة مقاومة نظام البطش وإسقاطه؛ بل لأنّ ذلك الطاغية تجاوز هذا ‘الخطّ الأحمر’ أو ذاك، فلجأ إلى طراز من البطش غير متفَق عليه، أو يغيّر قواعد اللعبة، كما سيقول أوباما لنظام الأسد، بصدد الجوء إلى الأسلحة الكيميائية. ومن الجلي، في مثال التسخين الراهن، أنّ رأس النظام السوري، في ارتكاب مجازر الغوطتَين الشرقية والغربية، على ذلك النحو الهمجي الوحشي المروع، لم يترك لرئيس القوّة الكونية العظمى أيّ خيار ثالث: إمّا أن يُؤدَّب الأسد على تجاوز للخطّ الأحمر (لم يكن الأوّل في الواقع، بل الرقم 50 ونيف، وإنْ كان الأعلى خرقاً لقواعد اللعب، واستهتاراً بالحدود القصوى لصبر البيت الأبيض)، أو أن يدخل أوباما التاريخ بصفات أخرى، غير أنه أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي: أنه، أيضاً، ذلك الخَرٍع المتردد العاجز الأضعف من بطة قعيدة!
هذه حال أثارت سؤالاً طبيعياً، اتكأ عليه أنصار النظام أوّلاً، ثمّ طوّره ـ ضمن وضعية الاتكاء إياها، أو على نحو أسوأ ـ عدد من فئات ‘الممانعين’ هنا وهناك (وفي مصر ما بعد السيسي، تحديداً، حيث بات ممانعوها الجدد، من أمثال حمدين صباحي، ينافسون ممانعي الأردن القدماء!)، أو معارضي الولايات المتحدة المزمنين في اليسار الغربي إجمالاً (جان ـ لوك ملنشون، زعيم ‘جبهة اليسار’ الفرنسية، مثلاً)، أو أصدقاء النظام السوري في أوروبا (النائب جورج غالاوي…). السؤال يقول، ببراءة منطقية: ولكن… ما مصلحة النظام في استفزاز أوباما، وإجباره على الذهاب إلى خيارات قصوى ضدّ النظام، كما يحدث الآن في أجواء التسخين للعمل العسكري؟ وأمّا التفريع التالي لهذا السؤال الأوّل، فإنه يسير هكذا: لماذا هذا التوقيت القاتل لاستخدام الأسلحة الكيميائية، الآن إذْ يقيم فريق التحقيق الأممي في دمشق، على مبعدة كيلومترات قليلة من الغوطة؟
يتناسى هؤلاء أنّ المنطق الأوّل الذي حرّك دوافع النظام، في استخدام الأسلحة الكيميائية على هذا النحو الهستيري الفاضح والمفضوح، هو الحاجة العسكرية الصرفة، او بالأحرى منطق الحاجة إلى التعجيل بحسم معركة الغوطة بوسائل عسكرية غير تقليدية. كان النظام، وما يزال حتى الساعة، يخوض واحدة من أشرس مواجهاته مع كتائب ‘الجيش السوري الحرّ’، وكان في وضع حرج ومرتبك ظلّ يتفاقم طيلة شهور، ولم يعد يقبل انقلاب استمرار الأمر الواقع إلى هزيمة تدريجية للنظام تُدني فصائل المعارضة من قلب العاصمة دمشق. في عبارة أخرى، إذا صحّ أنّ الأسد استفزّ أوباما، فلم يكن ذلك الاستفزاز متعمداً وعشوائياً، بل كان قسرياً ولا غنى عنه في حسابات النظام؛ خاصة وأنّ تجارب استخدام الأسلحة الكيميائية في الماضي، وهي تُعدّ بالعشرات، لم تستجلب غضبة أوباما، وأبقت ‘الخطّ الأحمر’، إياه، افتراضياً ونظرياً فقط.
في عبارة ثالثة، لم يستفق الأسد من نومه ذلك الصباح الباكر، يوم مجازر الغوطتَين، وقد أنس في نفسه قوّة جديدة خارقة تستدعي استعراض العضلات، وصفع أوباما على الملأ، وإحراجه، بل إهانته شخصياً، قبل إرساله إلى زاوية الخيار العسكري الخانقة، الوحيدة. الذي حدث هو أنّ صمت البيت الأبيض الطويل على مجازر النظام، وتقرير الجنرال مارتن دمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، إلى الكونغرس (قبل ساعات سيقت تنفيذ مجازر الغوطة)، في الجانب السياسي؛ والحرج الشديد الذي كانت تنزلق إليه قوّات النظام على جبهات الغوطة، وبعض قرى الساحل السوري، في الجانب العسكري؛ سرّعت قرار استخدام السلاح الكيميائي، بل زيّنت للأسد أنه إجراء آمن، غير مستفِزّ، غير محفوف بالمخاطر، و… منطقي! بالطبع، إذْ سيتساءل العالم، تماماً كما فعل في الواقع: أيعقل منطقياً أن يستخدم الأسد هذه الأسلحة، وفريق التحقيق الأممي يحقق في دمشق؟
المتحمسون للضربة الأمريكية ـ ولستُ شخصياً في عدادهم، بل أعلن صراحة أنني على الطرف النقيض ـ ينقسمون إلى أصناف، بالطبع: بينهم المفرط في التفاؤل، إلى درجة الوثوق بأنّ النظام ساقط بسببها، أو بعدها، لا محالة؛ وبينهم الواقعي، المتفائل بدوره، الآمل في أن تتسبب الضربة بخلخلة ما تبقى من تماسك في صفّ النظام، وبالتالي تعجّل في سقوطه؛ وبينهم ذاك الذي يكتفي بتقليم أظافر النظام، والحيلولة دون لجوئه إلى استخدام هذه الأسلحة، أو سواها من أصناف اسلحة الدمار الشامل. الآخرون، المشككون في جدوى الضربة، أو المناهضون لخيار التدخل العسكري الأجنبي، والأمريكي خاصة ـ وأضع نفسي بين دعاة هذا الطراز الأخير من المناهضة ـ يساجلون بالعكس تماماً: أنّ الضربة قد تقلّم أظافر النظام، إلى حين فقط، ولكنها لن تقتلع أنيابه ولن تنتزع براثنه؛ وأنها لن تمنعه من أيّ استخدام جديد لهذه الأسلحة، في أية فرصة يجدها النظام سانحة أو إلزامية لقوّاته الموالية؛ بل قد تجد إدارة أوباما، في هذه الحالة، أنها ضربت مرّة واحدة، وكفى، ولن تعيد الضربة كلما فتح الأسد ترسانة أسلحته الكيميائية!
ما العمل، إذاً، بعد أن أقرّ أوباما، ومن ورائه ‘المجتمع الدولي’، بأنّ الأسد تجاوز الخطّ الأحمر، الكيميائي حصرياً؛ على صعيد القوى الشعبية للانتفاضة السورية، أوّلاً، وكتائبها المقاتلة، المقاومة للنظام وللقوى الظلامية التي تصادر روح تلك الانتفاضة وجوهرها الديمقراطي التعددي، ثانياً؟ الإجابة لا تقتضي مشقة كبيرة، إذْ تنحصر في خطوتين: ما دام الصراع قد اتخذ الصفة العسكرية، عموماً وعلى النطاق الأوسع، فإنّ تزويد كتائب ‘الجيش الحرّ’ بأسلحة نوعية (مضادّة للدروع وللطيران، تحديداً) لم يعد ضرورة عسكرية محضة، بل إنّ الامتناع عنه، او التلكؤ فيه، صار هو ‘البذاءة الأخلاقية’؛ وما دام هدف ‘المجتمع الدولي’ هو حماية المدنيين السوريين، والكلّ يتباكى على عذاباتهم، فليفرض العالم على نظام الأسد قبول منطقتين عازلتين في شمال سورية وجنوبها، للمرّات الإغاثية والإنسانية تحديداً؛ وهذه هي الإجابة على الشقّ الثاني من السؤال.
إكمال الانتفاضة حتى انتصارها الختامي هي مسؤولية الشعب السوري، الذي انتفض من أجل الحرّية والكرامة والعدل والمستقبل الديمقراطي والتعددي الأفضل، وخاض معارك مشرّفة طيلة سنتين ونصف، ودفع الأثمان الباهظة من دماء أبنائه وخراب بلده الجميل العريق، لا لكي يتسوّل الخلاص عبر بوّابة التدخل الأجنبي الخارجي؛ هذه التي لا تتعارض مع معمار أخلاقي يتوجب أن تنهض عليه سورية الجديدة، فحسب؛ بل تتعارض أيضاً مع الدروس التي خلّفها التاريخ، ساطعة وجلية وأليمة، من كلّ تجارب التدخّل الخارجي في الجوار. وكيف للشعب السوري ـ الذي ينتفض بوسائله، واعتماداً على ذاته، ويلحق الهزائم بجيش النظام، ولا يصمد بقوّة فقط، بل يحرز الانتصارات أيضاً، منذ آذار (مارس) 2011 ـ كيف له أن يدين التدخل الإيراني والروسي، وكتائب ‘حزب الله’ و’أبو فضل العباس′ والحوثيين… ويقبل، أو يعلّق الأمال على، عملية عسكرية محدودة النطاق، تستهدف عقاب النظام لا إسقاطه أو تبديله؟
وكيف إذا كان ‘الخلاص’ منعقداً على الولايات المتحدة، دون سواها، صاحبة أربعة عقود ونيف من عمر علاقات مع آل الأسد، الأب قبل الابن، نهضت على الدعم والمساندة والتعاون والتفاهم والشراكة، وليس على العداء والتناقض والقطيعة. وذاك تاريخ جيو ـ سياسي حافل، شمل لبنان أوّلاً، منذ دخول قوّات النظام بإذن أمريكي سنة 1976، وضرب تحالف القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية في ذلك البلد، وشنّ حرب المخيمات على الفلسطينيين؛ وصولاً إلى ‘عاصفة الصحراء’، حين انخرطت وحدات من جيش النظام في تحالف ‘حفر الباطن’؛ دون إغفال الرضا الإسرائيلي الغامر، بصدد نظام كان حارس حدود للاحتلال الإسرائيلي للجولان، تحت مسمّى ‘دولة مواجهة’. وذاك سجلّ يشير إلى أنّ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، لم تشجّع أي مساس جدّي بنظام ‘الحركة التصحيحية’، بل ظلّ العكس هو الصحيح على الدوام، وبقي الخيار المعتمَد هو هذا: الاستغناء عنه، وعن سواه، ممكن بالطبع، ودائماً؛ ولكن لماذا نفعل، والنظام خدم ويخدم أجنداتنا، وأجندات حليفتنا إسرائيل، وغالبية حلفائنا في المنطقة، رغم كلّ الضجيج والعجيج حول ‘الممانعة’ و’المقاومة’؟
نقلّم أظافره، إذاً، حين يتجاوز ما رسمناه له من حدود؛ ولا نقتلع براثنه، لأنّ لنا بها حاجة… أصلاً!