النظام ضد الدولة الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 1 octobre 2013

السؤال الكبير الذي واجهته وتواجهه الثورة السورية، هو سؤال العلاقة بين النظام الاستبدادي والدولة.
النظام في سورية قام بتدمير الدولة، بحيث صار هو بديل الدولة والمجتمع في آن معاً.
ما شهدناه من تعنت النظام وحماقاته القمعية مع اندلاع شرارة الثورة في درعا، كان غير منطقي. وكأن النظام الذي اسسه حافظ الأسد كان واثقاً من عدم وجود اي قوة تستطيع ردعه عن غيّه، لأنه نجح في الغاء الدولة، و/او جعلها عاجزة عن الدفاع عن نفسها، بعدما نجح في تحطيم منطق الدولة.
اقتبس النظام البعثي تجربة النظام الكوري الشمالي بدقة لافتة، مرّ التوريث بسلاسة تثير الريبة، وبدا وكأن النظام قد نجح في افتراس جميع مكونات الدولة: القضاء، الجيش، النقابات، المؤسسة الدينية الرسمية، الجامعات… بحيث فقدت الدولة منطقها وقدرتها على الدفاع عن نفسها لأنها ببساطة لم تعد موجودة. صارت الدولة هيكلا عظميا بلا لحم ودم وعضلات، وتحولت الى مطية لا تملك اي قوام خاص بها، بحيث استطاع النظام تسخير ‘شرعيتها’ المفترضة من اجل ارتكاب حماقاته الجنونية التي تقود اليوم الى تحطيم النسيج الاجتماعي السوري.
احتاج تحطيم الدولة السورية الى عقود، لكنه كان ممكنا عبر عملية دمج معقدة بين اللغة ‘الثورية القومية واليسارية’، وبين الممارسة الفاشية. كما انه استند الى عملية استيلاء على المؤسسة العسكرية، عبر بنى طائفية- عشائرية، حولت في زمن الأسد الأب ‘سرايا الدفاع′ التي كان يقودها شقيقه رفعت الى بعبع للجيش والشعب، وجعلت من ‘الفرقة الرابعة’ التي يقودها ماهر شقيق الابن بشار تكرارا معدلا للتجربة السابقة.
الى جانب ذلك ارتكبت مجازر النقابات عشية مذابح حماه الوحشية عام 1982، وتم تحويل القضاء الى ممسحة للنظام، وصولا الى اتحاد الطلبة الذي صار احد فروع المخابرات.
عندما اندلعت الثورة بعد سقوط ديكتاتوري تونس ومصر، بدا وكأن الانتفاضة الشعبية السورية قادرة على احداث المعجزة عبر التضحيات الهائلة التي قدمها المتظاهرات والمتظاهرون السلميون، وهم يقتلون بالرصاص او في اقبية التعذيب.
غير ان سقوط النظام لم يكن ممكنا، لأن الانتفاضة الشعبية السورية بدت عارية في غياب الدولة ومؤسساتها، التي لو وجدت، لكانت بادرت الى الدفاع عن نفسها عبر المشاركة في عملية اسقاط النظام مثلما حصل في تونس ومصر.
الدولة كانت مدمرة وشبحية قبل اندلاع الانتفاضة، لذا كان من السهل على النظام المافيوي ان يخلع عنه عباءتها، وينهي وجودها الفعلي، ويلجأ الى القمع الوحشي الذي لا رادع له، مستخدما قطعان الشبيحة، الذي تمت شرعنة ممارساتها في ظل انهيار مؤسسات الدولة تحت ضربات النظام.
لقد اضطر النظام الاستبدادي الى اسقاط قناع الدولة عن وجهه، واعلن انه عدو فكرة الدولة كمؤسسة تتألف من مؤسسات اجتماعية مختلفة، تتفاعل فيما بينها، وتحافظ على استقلالية نسبية لمكوناتها المختلفة.
اسقط نظام الاستبداد في سورية اقنعته، واعتبر ان مهمته الراهنة هي الاقتصاص من المجتمع السوري الذي ثار على تسلطه. فجرت عملية انفلات للقمع، الذي تحول الى اداة انتقام وتدمير. النظام ينتقم من المجتمع ويسعى عبر تحويل المدن والقرى الى ركام، الى تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، محولا الشعب الى مجموعات هائمة من اللاجئين والشحاذين.
يخطيء من يظن ان مهمة الثورة اليوم هي انقاذ الدولة. فالدولة لا وجود لها، لأن النظام البعثي الفاشي قام بتدميرها قبل اندلاع الثورة بزمن طويل.
مهمة الثورة هي انقاذ المجتمع من الدمار اللاحق به، والذي صار اليوم عملية تزداد تعقيدا لأنها تدور على جبهتين: جبهة مقاومة آلة النظام العسكرية الوحشية من جهة، وجبهة المقاومة المدنية المتصاعدة ضد جماعة ‘داعش’ ومن لف لفها، والتي قدّم شباب وشابات الرقة نموذجاً عنها وعن بطولتها وشجاعتها.
انقاذ المجتمع هو شرط بناء الدولة السورية. النظام يهدم الدولة، والثورة هي اداة بنائها. هذه هي النقطة المحورية في الصراع في سورية اليوم. وهذا يتطلب من قوى الثورة تنظيم نفسها وتأسيس نواة الدولة، وتطهير صفوفها من قوى القمع والاقصاء والترهيب.
المؤشرات الدولية والاقليمية، بعد التوافق الامريكي- الروسي على الكيماوي، لا تحمل اي بشارة الى الشعب السوري في محنته مع نظام القتل والتدمير. سورية متروكة لمصيرها، ونظام الأسد الصغير اثبت انه لا يمثل مصالح الدولة السورية. فالتخلي عن سلاح استرتتيجي قال النظام انه اعد لبناء توازن مع اسرائيل، لا يستخدم ضد الشعب اولا، ولا يقدم ثانيا كتنازل عن منطق الدولة من اجل بقاء النظام.
كما ان النظام يقدم خدمة لا تقدّر بثمن للقوى الغربية واسرائيل، لأنه يقوم بتدمير المجتمع ويسعى الى توحيشه بمختلف الوسائل.
لا اريد ان اضخم المأساة، فالمأساة كبيرة وتكبر باستمرار، لكنني لا ارى اي مخرج من المأساة سوى عبر نجاح المجتمع السوري في اسقاط النظام كخطوة اولى نحو بناء الدولة.
هنا لا بد من الاشارة الى ان المناضلات والمناضلين على ارض سورية يصنعون معجزة صمودهم من دون اي مساعدة فعلية من الخارج. الفقاعات الدموية الوحشية التي تسللت الى الثورة لن تستطيع في يقيني ان تستولي على ثورة شعب وتقوم بتحويل سورية الى اضحية مجانية على مذبح الاستبداد.
انها معركة طويلة، شرط الانتصار فيها هو تأكيد قيم الوحدة الاجتماعية ونبذ الطائفية والعنصرية واخراج الخطاب الديني من الثورة، كي تستطيع الثورة حماية المجتمع من التفكك، واعادة تأسيس الدولة ومنطقها من تحت هذا الركام الذي صنعه الاستبداد.