تحطيم الأيقونات بين الوهم والإرهاب الثقافي – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 15 janvier 2014

في الطفولة، نحلم بشخصيات خيالية تحدثنا عنها روايات الجدات حيث نسعى لرسم مغامراتٍ ذاتيةٍ مرتبطةٍ بها. وعندما ندخل سن المراهقة، نبدأ بعملية تحويل أضغاث الخيال إلى شبه واقع، ونبدأ في سرد الحكايات التي لا اساس لها من الواقع أو أن أساساتها مهجّنة بمساعدة طيشنا أو خيالاتنا المكتسبة طولاً وعرضاً منذ الطفولة. وحينما يحلّ الشباب مبكراً غالباً، نبدأ في اختيار التوجّه وبالتالي نغرق في قراءة الكتب وسماع الموسيقا ونختار رموزنا الروائية والتاريخية والسياسية والغنائية والفنية إلخ. ويبدأ التكوين ببناء سيناريوهات تتنوع بين لقاء هذه الشخوص أو تقمّصها. وتبدأ محاولات التقرّب منها عندما تتاح الفرصة خيالاً أو حقيقةً. وكم هرفنا بما لا نعرف وادعينا وصلاً بمشاهير الرواية أو الفكر أو الفن. ولكن هذه المرحلة كانت أساسية في بناء وعينا وترتيب اولوياتنا. وصار لكل منا مثله الأعلى، وبدأنا نتبارى بإيراد مقتطفات مما نهلناه في كتبهم. وصار الشاطر منا من يأتينا بصورة له إلى جانب الأيقونة الرمز ولو كانت فوتوشوبية أو عن بعد. وجاءت الحياة العملية التي ساعدت بعضنا في الوصول إلى مقاربة هذه الرموز أو « مقارعتها » فتنوّعت ردود الفعل وتلوّنت المشاعر مزيجاً بين تعزيز الإعجاب أو الولوج في الاحباط.

في هذا الإطار، وفي زمن يبدو بعيداً جداً، أي في بدايات الحراك السوري، وفي مساءٍ باريسيٍ بارد، دعتني مؤسسة بحثية فرنسية إلى ندوة حوارية حول الثورات العربية إلى جانب شخصية عربية مشهورة جمعت في ثناياها الأستاذ الجامعي والباحث الاقتصادي والخبير الدولي والمسؤول السياسي التنفيذي السابق. هذا الرجل « المعجزة » أثرى المكتبات بعدة مؤلفات « مرجعية » جرت ترجمتها إلى عديدٍ من اللغات. وقد شعرت عندما استلمت هذه الدعوة، بأنني من أكثر المحظوظين في الكون لألتقي مع علمٍ من أعلام الفكر الذين نهلت من كتاباتهم في مرحلة تكويني العلمي. وزادت غبطتي عندما قيل لي بأننا سنكون المتحدثين الوحيدين في هذا اللقاء، فيا له من تكريم لشخصي المتواضع والذي سيبدأ الغرور في التسرّب إلى محياه بعد هذه الأمسية التي جاور وحاور فيها الكبار.

ومن الطبيعي أن الخوف قد تسرّب إلى عروقي وبأن الرهبة قد سيطرت على نبضي، لأنني سأكون في حضرة هذه القامة، وربما، والعياذ بالله من كلمة ربما، سأُقارن بها. أو حتى، يمكن للبعض، وهذا شائع، أن يحاسب كلماتي وما تحتويه من ترّهات وعموميات مقابل عصارات الفهم والعلم والمنطق التي سترد على لسان الأيقونة الفكرية المرجعية العظيمة. وبدأت، كالتلميذ النجيب، في الإعداد باجتهاد لهذا اللقاء. وعدت إلى « مقاعد » الدراسة في غرفتي أجمع كتبه وأبحاثه وأستعيد ما غاب عني من ممارسة في ظلّ انخراطي في الشأن اليومي، وانغمست في قراءة نصوصه العلمية وتحليلاته للعلاقات الدولية في ظل النظام العالمي الجديد. وللاستراحة من الانهماك في القراءة، بدأت أضع السيناريوهات اللازمة لكي تلتقط لي صورة مناسبة إلى جانبه أو وراءه لا فرق. المهم أن أكون في فضاءه الجغرافي القريب، لأتبجّح أمام أصدقائي، وخصوصاً صديقاتي، بأنني كنت إلى جانب هذا الكبير، ولربما حتى تقاسمت الصورة على شبكات التواصل الاجتماعي لأحظى، بمعيته، على استحباب الزوّار، ولو لمرة في الموسم. وفي هذه الحالة من الايفوريا عالية الدرجات، أهملت أن أعود إلى مقالاته الأخيرة لأتطفّل على مواقفه السياسية حول الثورات العربية وخصوصاً فيما يتعلّق بالشأن السوري.

مع بدء الأمسية الحوارية، قام المنظمون، بإعطاء الكلمة الأولى إلى المدعو/النجم طبعاً تناسباً مع قيمته العلمية وعمره الزمني. وكان الحديث يتناول مجمل انطباعاته بخصوص الثورات/الاحتجاجات/التمردات العربية. وقد انتابني شعورٌ غريب « قضّ مضجعي » الاعجابي من خلال سماعي لعبارات لم أتوقعها من قامة بمستواه بخصوص « المؤامرة » و »أنبوب الغاز » و »المخطط الصهيوـإمبرالي » و »البتروـ دولار الثوري » إلى آخره من هذه التعبيرات التي يبدو أن استعمالها المجرّد من الأبعاد الأكثر تعمّقاً يملئ مقالات ذات سوية منخفضة في صحفٍ منخفضة المهنية ولمستكتبين منخفضي العلم والثقافة. فتوقعت، وأملت، بأن يتوقف الأمر عند هذا الحد لنصل إلى الكلمة المفتاحية الأشهر « ولكن » لكي يكون الشأن السوري بعيداً عن هذا التبسيط والتعجّل العائدين ربما لرغبة في الاختصار والانخراط في العشاء والشراب الحاضرين بكثافة وبنوعية عالية المستوى.

ولكن، وعندما خاض « المرجع » الكبير في الشأن السوري، أصابتني « رعشة » المخدوع لحظة دخوله إلى « مخدعه » ليجد بين دفتيه « خيانة » موصوفة لا يقدر على التعامل معها إلا بالصمت والألم. وإن ثار، فلثورته عواقب لا يمكن أن تحتملها منابر بهذا المستوى. وتعاقبت من ثغره العبارات التي تخلّت عن مرجعية المنهج التحليلي المنتظر منه وتأبّطت كل ما حفلت به نظريات المؤامرة بأبعادها المحلية والمستوردة. فعرّج على كل ما سبق من تعبيرات « مؤامراتية » وزاد عليها ما لذّ وطاب ارتباطاً بالمسألة السورية. فكاد أن ينسى وجود كائنات بشرية في هذا البلد، وتبدّى له بأن كل ما فيه هو مصالح اقتصادية/نفطية/غازية/تجارية/جيواستراتيجية… تعبث بها جموعٌ من الخونة والمتآمرين والجهلة والظلاميين. وكانت خلاصة فكره الجليل: إننا شعوب لا تستحق الحرية وفي أفضل الأحوال، فمستبدٌ عادلٌ أو متنورٌ سيكون حلاً وسطاً وأكثر ما نستحقه كرعاعٍ غير مؤهلين للديمقراطية.

بعد تمالك الأنفاس، وحساب الأخماس والأسداس، تقدمت الى ساحة الوغى، واستللت أفكاري المتبعثرة يمنةً ويسرة نتيجة أمواج التشتيت الهائجة التي تعرضت لها من خلال ما سبق وسمعته. وما لبثت أن تناسيت « مقامه » المنزّه وقابلت حججه البلاغية بحججي العلمية دون أن أبتعد لحظة عن التزامي الهدوء معتمداً أساساً وأولاً على ما استعدت قراءته له تحضيراً لهذه المناسبة. لدرجة أنني استخدمت بعض التوصيفات الواردة فيما سبق وكتب وأسهب لكي أوضّح بأن موقفه قد تعرّض للتغيّر أو للتغيير لسبب أجهله شخصياً. ولكن العلوم السياسية، وخصوصاً الاقتصادية، قادرة على أن تحيط بالأسباب حتماً اعتماداً على تراثٍ كوني قديم ما فتئ يوثّق عُرى الصداقة أو التبعية بين المستبد والمتمجّد الذي تخلى عن مجده في سبيل مكتسبات عينية أو مالية.

وبالطبع، لم أتلفّظ بأيٍ من هذه العبارات التي جالت في خاطري لأنني أعتبر ان المجال كان لمقابلة الحجة بالحجة ولتبيان ان « استشراقيته » المستعادة لا تلتزم بعديد كتاباته حول الغربي المُسيء للشرقيين والتي كانت تنتقد أيّما انتقاد التركيز على عجز هذا « الشرقي الجاهل » على تشبّع مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية. ومقالاته التي لم تتوان عن إدانة الرؤية العوجاء أو المشوهة للمسألة الدينية وربطها بمكوّن ثقافي مهلهل تجب إعادة صياغته. وأخيراً، رفضه الشديد للنظرة الاستشراقية العمياء التي لا تجد في المنطقة سوى مشكلة أقليات حان قطافها.

وقد وصلت إلى خلاصة مؤلمة بعض الشيء، في زمنٍ صار فيه الألم رفيقاً للدرب. وكانت كلماتي الأخيرة، وبعد أن ضبطت إيقاعي بشكلٍ أبتعد عن التشخيص، قاسية للغاية، وها أنا أعترف. ولكن قسوتها لا تبرر في حال من الأحوال أن أتراجع عنها أو أن انتقد تبنّيها. فماذا حملته هذه الخلاصة؟

حتى ابتعد عن اعتبار بأن ما أورده صاحبنا، وصاحبنا هذه مرتبطة بأنني خففت من درجة التبجيل بعد كل ما سمعت، يحمل شيئاً من المنفعة المباشرة المرتبطة بالمستبد أو غلمانه أو جواريه، وسعياً لتحاشي اعتبار عمله كمستشار « تقني » لفترة مع مستبدين كثر في المنطقة مؤشّراً على طيّه لصفحة الضمير واعتباره بأن انبوب المنفعة الذاتية يمكن أن يمر فوق المبادئ والقيم، أعطيت لفكرتي منعرجاً ثقافوياً.

فاعتبرت بأن ضعف الانتماء الفعلي إلى فئة المثقف العضوي هو العامل الأساس في بناء/تهديم موقفه الحالي. واستعدت تجربة الحرب اللبنانية، وهو عنها ليس بغريب، وبأن ضعفاء المثقفين والمفكرين، وبعد إضفاء الصبغة الطائفية/الدينية/المذهبية على المقتلة، انحرفوا أو تراجعوا أو تموقعوا أو تقوقعوا في سراديب انتماءاتهم البدائية بعيداً بسنوات ضوئية عما اشتغلوا عليه أو أنهم أوهمونا بأنهم اشتغلوا عليه وأوسعوه تمحيصاً وتحليلاً ونقداً « بنيوياً وهيكلياً ». ولم استثني من انتمى إلى « الأغلبية » أو « الأقلية » من ملاحظتي. واعتبرت بأن المثقف العضوي المتجرّد عملة نادرة في ثقافتنا لأسباب يطول شرحها هنا ولكنني شرحتها هناك.

فما كان من « صاحبنا »، والمعترضتين هنا استباقاً لأي اتهام بالصحبة الحقيقية، إلا أن علّق، وبفرنسية عالية المستوى وحادّة النبرة : « حديثك هو عبارة عن ارهاب فكري ». وأضاف، لا فضّ فوه، بأنني أُعبّر في كلامي عن مصالح قوى خفية تسعى إلى السيطرة على مصادر الثروات في بلادنا، ليبقى في مجاله الاقتصادي/المالي، ناسياً بأن من عمل لديهم مستشاراً ومن يدافع عنهم، نهبوا ما استطاعوا اليه سبيلاً، وما لم تصله أياديهم وأفواههم التي انتقلت من مرحلة الشفط إلى مرحلة اللهط (والتعبير للمؤرخ الكبير عبد الله حنا)، فقاموا بتدميره منهجياً وبتؤدة.

وعقّب بعض « الفرنجة » على ما تفوّه به مستغربين فوقيته العلمية والتعاملية، مُشيرين إلى أن فقدان الحجة تدفع إلى التهجّم غير المبرر. وقارن آخرون بين ما يكتبه بعض جهلتهم في الصحف عن أمور الأقليات والتطرف الديني وعجز الثقافة العربية / الاسلامية عن تبني مفاهيم الحداثة، بما جاء على لسان « أيقونة » الفكر العالم ثالثي.

وانتهى الحوار بهذه الجملة « المعترضة » ولم أبخل في التزام الصمت حداداً على حلمٍ عاشني لسنوات بأن التقي يوماً بكاتب ما قرأته ونهلت منه بشغف وإعجاب. إنها الأساطير « تموت » جالسة، بما أنه كان جالساً، والأوهام لا تُحيي العظماء وهم رميم.

من المفيد والمهم والإيجابي أن تكون لدينا أيقونات فكرية أو فنية، ومن الصحّي والمحمود أن نحلم بمجاراتها أو مقابلتها أو مقارعتها يوماً. ولكنه أيضا من المفروض أن نحصّن الذات أمام خطر الوقوع في الخيبات، وما أكثرها في زمننا الأغبر الذي نعيش. كم من شاعر وموسيقي وتشكيلي وكاتب وسينمائي، انحاز إلى ذاتيته المفرطة في التعاطي مع الهمّ العام، واستقال من واجبه الأخلاقي كشخصية عامة ينتظر منها الكثيرون الرأي السديد وإعطاء المثال وتكوين القدوة. ربما في هذا طوباوية تُثقل التحليل وتُبعده عن الوقائع المُعاشة، ولكن الحلم هو جزء من الحياة، وسأستمر أحلم بلقاء هنا أو هناك مع أيقوناتي المُبتغاة واستعد للخيبة تلو الخيبة. إنها الحياة.