سورية: بعض الأمل من أوكرانيا… ومن حوران – عبدالوهاب بدرخان
هل يقرأ النظام السوري الحدث الأوكراني باعتباره لمصلحته؟ ثمة غباء ينافس الحماقة في مثل هذا الاستنتاج… فسقوط نظام روسيا في كييف قد يكون مقدمة لإسقاط نظام روسيا وطهران في دمشق. ومنذ الآن، أصبح الملفان السوري والاوكراني متلازمين في المساومات الروسية مع الغرب، تحديداً مع الولايات المتحدة. المصلحة في اوكرانيا ضرورة لازمة لروسيا، حاضراً ومستقبلاً. أما في سورية، فهي «اكسترا»، أي مصلحة فائضة كان فلاديمير بوتين يستخدمها لإرغام الغرب على الاعتراف بالنفوذ الروسي في اوكرانيا وجورجيا وما بعدهما. لم يتكلّف «القيصر» أي أعباء في سورية، ولعله الوحيد الذي راكم من العبث فيها مكاسب فوق مكاسب، مستنداً الى أن شريكيه – النظام السوري وحليفه الايراني – مصممان على قتل الشعب السوري وتدمير مدنه واقتصاده، وليس له أن يمنعهما.
لن يُحكم على بوتين بأنه أعاد أمجاد روسيا القيصرية و «السوفياتية» بمساندته نظام بشار الأسد، بل من خلال ما حدث في اوكرانيا. فهذه ليست مجرد خسارة لروسيا وإنما هزيمة لبوتين ظلّلت كل «الانتصارات» التي ربطها بشخصه. فهو قد يكون كسب نقاطاً ضد الولايات المتحدة، اذ سلّط الأضواء على «الكيل بمكيالين» في سياساتها الاميركية، وأذلّها مستخدماً أساليبها في التحكّم بالعالم عبر مجلس الأمن، ولفت الى الجوانب السيئة في تدخلاتها الخارجية، خصوصاً في العراق وليبيا. لكن دعم بوتين للحكّام الأكثر سوءاً جعله متماهياً مع السياسات الاميركية الأكثر بشاعة، من دون أن يعطي نموذجاً روسياً لـ «التدخل» جديراً بالتقدير، ولا بديلاً يستحق أن يتبنّاه العالم. فالمقارنة السوداء السقيمة يمكن أن تعثر على «هدف نبيل» تحت ركام التدخّل لإسقاط نظامي العراق وليبيا، في معزل عن الأوضاع المخزية فيهما راهناً. أما في سورية، فإن روسيا قد يزعجها القول بأن لها هدفاً نبيلاً، وكل ما في الأمر أنها لا ترى في جرائم النظام ما يستوجب تغييره طالما أنه يستورد منها السلاح وطالما أن هناك إيران التي تدفع الفواتير.
ظن الروس أن الغرب يسلّح المعارضة السورية، فإذا بالأسلحة تظهر… في اوكرانيا. غداة سقوط «نظام فيكتور يانوكوفيتش»، استعار لافروف تصريحات للأسد لمهاجمة خصوم روسيا الاوكرانيين، فتحدّث عن «المتطرّفين» وقال سواه من الروس إن هناك «نازيّين»، بل جهر بأن ما حصل «مؤامرة اميركية»، وكان الفارق أن بوتين تهاتف مع باراك اوباما وأنغيلا ميركل، أما الأسد فاتصل بقاسم سليماني، الطرف الوحيد الذي يمكن أن يرد عليه. وظنّ الروس أنهم وجدوا «حلاً سياسياً» لمشكلتهم في اوكرانيا، وأن نفوذهم موطّد طالما أن رجلهم الرئيس المنتخب يحكم، وفيما يحاولون الآن موقتاً ضبط نوازعهم بحثاً عن تسوية سياسية، فإنهم يعتقدون أن مستقبل نفوذهم قد يتطلّب عملاً عسكرياً ما، أي أنهم يغازلون خيار الأسد – سليماني في سورية. ولِمَ لا؟ فأوكرانيا وشعبها انقسما بين شطر أصغر في الشرق يريد روسيا («الى الأبد») وشطر أكبر في الغرب اختار العيش مع اوروبا. وهكذا، فإمّا الحرب الأهلية الطاحنة والمدمّرة، وإمّا تقسيم البلاد وبالتالي تقاسم النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة. وفي هذه النقطة حصرياً ربما يجد النظام السوري «مصلحةً» في ما رسمه منذ (حكم البلد أو تقسيم البلد)، ذاك أن الواقع التقسيمي الذي طُرح في اوكرانيا غداة سقوط النظام الموالي لروسيا قد يكون إيحائياً للأطراف الدولية في سعيها الى حل الأزمة السورية.
دأبت موسكو على نقل شكاوى الأسد من الدول الداعمة لـ «الارهابيين»، وتوصّلت الى إقناع/ خداع/ إرغام واشنطن التي عمّمت على حلفائها وجوب الامتناع عن أي «تسليح نوعي» للمعارضة، بل ضغطت في بعض المراحل لحجب أي معدّات عسكرية أو حتى ذخائر عنها. وكان الدافع أن هناك تفاهماً على «حل سياسي» قريب. فالروس تعهّدوا الضغط على النظام لتقديم تنازلات، والاميركيون التزموا الضغط على المعارضة لخفض التوقعات. في جنيف كانت لحظة الحقيقة: لم تنفّذ موسكو ما عليها، أو لم ترد/ لم ترغب/ لم تستطع، أو كل ذلك معاً، لأن الكلمة الأولى في سورية هي حالياً لإيران، ولأن تشابهاً وتطابقاً ترسّخا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بين سوفياتية موسكو وصفوية طهران. وفي جنيف، قيل أيضاً إن انفجار الحدث الاوكراني انعكس على سير المفاوضات، وكان ذلك صحيحاً نسبياً، فالروسي الذي أدرك أنه إزاء امتحان صعب في كييف لم يتحمّس لتقديم تنازل في شأن سورية، بل تأهب لمواجهة جديدة في مجلس الأمن. لكنه اضطر للموافقة على قرار تعزيز سبل إيصال المساعدات الى المناطق المحاصرة والمحتاجة في سورية، أولاً لأنه استطاع تعقيم القرار وتجريده من أي مستتبعات عقابية، وثانياً لأنه فرض صوغ الفقرة المتعلقة بـ «الارهاب» وفقاً لمفهوم نظام الأسد، وثالثاً لأنه أقصى أي اشارة الى «فيلق القدس» الإيراني و «حزب الله» اللبناني، ورابعاً لأنه متيقن بأن النظام يتكفّل بإحباط القرار، وخامساً لأن الصين لم ترَ هذه المرّة ضرورة لـ «الفيتو»… ومع ذلك، لم يكن الروسي مرتاحاً لصدور قرار بشأن سورية، لأنه يعني أن استراتيجيته لتعطيل مجلس الأمن اختلّت، لكنه كان عطّل أيضاً مفاوضات جنيف كـ «بديل» من مجلس الأمن. اذاً، فالخلل أكثر عمقاً، وهو في اختيار الحلفاء.
كان لافتاً أن المندوب الروسي في الأمم المتحدة أشار الى «هدنات» أو «مصالحات» يقيمها النظام مع بعض مدن الغوطتين. تجاهل فيتالي تشوركين، وحكومته، أن النظام اتّبع سياسة تجويع متعمّدة لإذلال من يفترض أنهم مواطنون في بيوتهم وحواريهم وليسوا ارهابيين جاؤوا من الخارج. بل إن الروس باتوا يميلون الى الاعتقاد بأن هذه «الهدنات» يمكن أن تغني عن حل سياسي في جنيف، على رغم أنهم ليسوا بالسذاجة التي تجعلهم يصدّقون أن ما يحصل هو تطبيع حقيقي للأوضاع في الغوطتين. فمناطق اليرموك وحرستا والقابون وبرزة والمعضمية وداريا وأخيراً ببيلا فاوضت وقبلت الهدنة لإنقاذ أرواح من الموت جوعاً أو مرضاً، لكن السلطة لم تنفذ تعهداتها بإطلاق المعتقلين ولا تزال تمارس التقنين الغذائي والدوائي ولم تسمح للناس بالخروج الحر والآمن، وفي كل هذه المناطق حصلت اعتقالات جديدة، بل حصل في المعضمية ما هو أفظع، اذ تعرّض عشرات الأشخاص للقتل على أثر خروجهم منها.
على رغم المجازر والقصف بالكيماوي وسياسة الأرض المحروقة والحصارات الطويلة والتجويع من أجل «تأمين» دمشق وإبعاد الأخطار عنها، عادت العاصمة محوراً للمعركة المقبلة، وتبدو تحركات «الجيش الحر» في حوران بمثابة إنذار للنظام الذي فقد خلال أيام سيطرته على مواقع عسكرية رئيسة في الجنوب ولم يعد له أي وجود على الحدود مع اسرائيل. ولعل الحال العامة لـ «الجيش الحر» هناك، بانضباطه وتدريبه وعدم اختراقه من جانب النظام أو مجموعات جهادية كـ «جبهة النصرة» أو «أحرار الشام»، تجعل منه قوة يُوثق بها، وبالتالي يمكن تسليحها والاعتماد عليها لتوجيه ضربات مؤلمة للنظام ولإنذاره بأن إسقاطه عسكرياً ممكن اذا لم يرضخ لشروط «الحل السياسي» المتاح في جنيف. في المقابل، بوشرت اعادة تنظيم صفوف «الجيش الحر» في مناطق الشمال بغية منع أي تقدّم لقوات النظام وحلفائه، واستعادة زمام المبادرة في مواجهتها. هذه عملية تستلزم بعض الوقت، لكن السلاح النوعي سيمكّنها فور تفعيلها من إحداث فارق ميداني ملموس… في ما يجري حالياً ملامح خطة مضادة والتفافية على الخطة الايرانية في سورية.