شكرا للبحر! – جمانة غنيمات
شكرا للبحر! – جمانة غنيمات
« شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي ».
هذا جزء من رسالة مؤثرة تداولها ناشطون سوريون على شبكات التواصل الاجتماعي، قيل إنها وُجدت في جيب أحد اللاجئين السوريين الذين انتُشلت جثثهم بعد غرق المركب الذي أبحر بهم، وكان يحمل على متنه المئات من المهاجرين غير الشرعيين، في رحلة عبر البحر الأبيض المتوسط، للوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
والواجب الإنساني والأخلاقي يحتّم الرد على رسالة الشاب، ليتأكد أنها وصلت. فقد كتبها وهو مدرك لمصيره الحتمي؛ وجبة دسمة لأسماك البحر الغاضب من أفعال البشر، بعد أن لوّثوا مياهه بدمائهم، وهم يتناحرون مرة باسم الدين، وأخرى باسم الرد على « المؤامرة الكونية ».
شخصيا أقول: رحم الله كاتب الرسالة الذي هرب -بحثاً عن مستقبل آمن، وأملاً في التخلص من الدم والقتل والبراميل المتفجرة- على ظهر قارب مهترئ، في بحر لا يرحم، لكنه على كل قسوته بقي أحنّ عليه من وطن لم يعد يحتمل أبناءه.
أقول له: لا تعتذر للوالدة، فالواجب أن يعتذر لك ولها العالم؛ كل العالم الذي ضيّع الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية، فرق حساب في لعبة السياسة وحروب الوكالة التي تنهش هذه الشعوب، فتجعل دماء أبنائها رخيصة، لقاء نفوذ وسلطة لطالما كان الشباب ضحايا لهما.
نشكر البحر الذي احتضن جسدك؛ فلعله فعلاً كان أكثر رحمة ممن يُفترض أنه « أخوك » الإنسان، ولعله حماك من مصير أقسى كان ينتظرك لو بقيت في أحضان والدتك، إذ لربما كان سيُقطع رأسك أو كل جسدك، أمام عيون الوالدة الثكلى.
وشكرا للبحر الذي ضمك، كما قلتَ حقاً، من دون أن يسألك عمن أنت، وما دينك وطائفتك، وما هي أصولك! فاليوم، في « وطننا » العربي يا أيها الشاب، يشيع القتل على الهوية. بل اسمك وحده، إن كان « عمر » أو « علي » وغيرهما، كفيل في أحيان كثيرة بأن يجلب لك الحظ العاثر القاتل، ومصيراً أقسى وأبشع من ذاك الذي قدمه لك البحر.
اليوم، نقتتل طوائف، ونرى أبناء الوطن العربي الكبير منقسمين إلى أصغر نقطة عشرية؛ ليس على حقوق الإنسان، بل للانقضاض عليها.
شكرا لك أيها الراحل، لأنك ذكّرت العالم الذي يخشى الهجرة غير الشرعية، ليس خوفاً على أرواح شباب فروا من واقع مفجع، بل حرصا على عدم تلوث مجتمعاته بمن يراهم « كائنات » تأتيه من عالم القتل والدم والعنف.
شكرا لك كاتب الرسالة-الوثيقة، لأنك ذكّرتنا جميعاً أيضاً بقسوة البشر، وكيف خلا عالمنا من الإنسانية والرحمة، حين تخلى عن الشعب السوري الأعزل في وجه كل من يقتله؛ قوات النظام أو حتى التنظيمات الإرهابية.
برسالتك الموجعة، قلت لنا كم عالمنا بشع، وكم هو قاس على شباب حلم ذات مرة بحرية وديمقراطية مختلفة، وأمل بدولة تحترم حقوقه، ولو بالحد الأدنى الأساسي منها. لقد قلت لنا من جديد كيف انتفض العالم ليختطف ثوراتكم وأحلامكم، ويقضي على ما تبقى منها، ويدفنها بين أمواج البحر.