عرسال: هل هي تنويع جديد لمحاصصات فاسدة؟- صبحي حديدي
إذا كانت «داعش» قد قدّمت للنظام السوري هدايا كثيرة، منذ صعودها كتنظيم عسكري مواظب على ارتكاب الجرائم الفظائع والقبائح التي توفّر نظائر مطابقة لما ترتكبه وحدات بشار الأسد العسكرية، وأجهزته، وميليشياته الطائفية منها بصفة خاصة؛ أفليس طبيعياً، والحال هذه، أن تقدّم «داعش» هدايا مماثلة لحلفاء النظام، في لبنان والعراق تحديداً؟ أليس ما جرى في عرسال، مراراً قبلئذ، في المواجهات مع «حزب الله»، وما يجري منذ أيام في مواجهات جديدة مع الجيش اللبناني، مدعوماً من «حزب الله» و»أمل» وفصائل أخرى حليفة للنظام السوري؛ بمثابة «ستراتيجية مخرج»، حتى إذا كانت ركيكة ومفضوحة ومكشوفة، يعتمدها حلفاء الأسد اللبنانيون لتبرير قتالهم إلى جانب نظامه، داخلسوريا؟
خلاصة قد تبدو بديهية، في نهاية المطاف، او حتى بسيطة وتبسيطية؛ الأمر الذي لا يلغي أهميتها في التحريض الميداني ضدّ النزوح السوري في لبنان، بادىء ذي بدء، وفي الخلفية البعيدة (كما تُقرأ ردود الفعل الغاضبة في اللبوة، وقطع الطريق على قافلة المساعدات الإنسانية إلى النازحين السوريين المحاصرين في عرسال)؛ وكذلك، استطراداً، وفي الخلفية السياسية الأقرب، ضدّ قوى الانتفاضة السورية، التي تعاني من «داعش» أكثر بكثير ممّا عانت عرسال. كذلك لا ينبغي لخلاصة كهذه أن تطمس حقيقة أخرى جوهرية، موازية بقدر ما هي وازنة، في المعادلة ذاتها: أنّ جماهير عرسال، في سوادهم الأعظم، كانوا على الدوام متعاطفين مع الانتفاضة، وقدّموا ما استطاعوا لإغاثة السوريين، حتى حين كانت طائرات الأسد تقصف بيوتهم، على مرأى ومسمع من وحدات الجيش اللبناني.
خلاصة أخرى، بديهية بدورها، وإنْ كانت أكثر احتفاءً بالتهويل الدرامي؛ هي أنّ مناخات «الالتفاف الوطني» الحارّ حول الجيش اللبناني، واتفاق جميع القوى والساسة والفئات على اجترار العبارة المكرورة التي تقول إنّ هذا الجيش «خطّ أحمر»… كانت، في الواقع، تعيد عزف أسطوانات مشروخة، كاذبة تماماً، ومنافقة مرائية، تفيد العكس… تماماً، أو تكاد: أنّ هذا الجيش منتهَك الكرامة، عسكرياً ومعنوياً، على يد مسلّحي «حزب الله» أوّلاً، والميليشيات كافة ثانياً؛ وأنّ الجوهر الأقصى لوظائفه بات منحصراً في… ترقية قائد الجيش إلى رتبة رئيس الجمهورية، حيث يسود الوئام الوطني ساعة، وتهيمن الانشطارات الطائفية والمذهبية والطبقية كلّ ساعة.
وللوهلة الأولى، قد يبدو مدهشاً أنّ هذه الخلاصة تعيد ترجيع أصداء ترددت عشية الانتخابات النيابية، صيف 2009، حين أكّدت النتائج مآلَيْن، منتظَرَيْن تماماً في الواقع: انتخاب نبيه برّي، لولاية خامسة، في رئاسة المجلس النيابي، أي المؤسسة ذاتها التي عطّلها عن سابق قصد وانحياز سياسي، وحوّلها إلى أضحوكة، طيلة أشهر؛ وتكريس سلطة المال السياسي الحريري في سدّة رئاسة الوزارة، استمراراً للنهج الذي دشّنه رفيق الحريري سنة 1992، في وزارته الأولى، وتوجّب أن يتابعه وريثه السياسي سعد الحريري. آنذاك، كما اليوم، بدت «الوحدة الوطنية» مختزَلة في هذا الوئام القديم/ الجديد حول مؤسسة الجيش، ثمّ بعدئذ في شخص الرئيس (العسكري) العتيد.
في عرسال، اليوم، تتكاتف آلة عسكرية متنافرة، وليست البتة تعددية «تحت سقف الوطن اللبناني»، إذا جازت الاستعارة من خطاب إعلام النظام السوري؛ لم يسبق لها ان تكاتفت على هذا النحو، العسكري أو التعبوي، في أية واقعة وطنية سابقة، وربما على امتداد تاريخ لبنان. في باطن هذا السياق، بدا «حزب الله» وكأنه عاد خطوة إلى الوراء ـ واحدة فقط، أغلب الظنّ! ـ عن التبشير الأحدث الذي طلع به حسن نصر الله قبل أشهر، في خطاب حماسي عاطفي مشبوب: «نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»؛ «ونحن الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري». كان ذاك هو الإعلان الأكثر وضوحاً عن هوية مذهبية للحزب، شيعية، لكنها تشدّد أيضاً على الركنَيْن، «الإماميّ» و«الإثنا عشري»، تحديداً. في عرسال الراهنة، يلوح أنّ الحزب عاد، وإنْ بمعدّل خطوة واحدة يتيمة، إلى خطاب سابق، حُرق واستُهلك واستُنفد، يشدد على الانتماء إلى الاجتماع السياسي اللبناني، «الوطني» هذه المرّة، وليس «الإماميّ» و»الإثنا عشري».
يُراد لنا، إذاً، أن نكون في منأى عن ـ وعلى مبعدة بعيدة… بعيدة من ـ «غزوة بيروت» في أيار (مايو) 2008 (ساعة اتضح أنّ «حزب التحرير» استدار ببندقيته، على عكس ما أقسم قادته مراراً، نحو خصم محلّي، ونحو المجتمع اللبناني في المحصلة)؛ والعجز عن الثأر لمقتل عماد مغنية، في سياق ما أسماه نصر الله «الحرب المفتوحة» على إسرائيل؛ وعدم ترجمة مبادىء الميثاق الجديد، حتى تلك الفضفاضة في مصطلحاتها «الوطنية»، إلى تطبيقات سياسية واجتماعية على الأرض… كلّ هذه كانت عوامل تعيد «حزب الله» إلى صياغات تأسيسه الأولى، وتضعه في قلب ارتباطات أحلاف الخارج، هذه التي لم يسبق له أن انفكّ عنها تماماً في الواقع.
في تلك الحقبة، تحديداً، ويا لمحاسن الصدف التي ليست مصادفات عشوائية أبداً، أجرى وزير خارجية النظام السوري، وليد المعلّم، حواراً مع غابرييلا رفكند، من صحيفة الـ«غارديان» البريطانية، قال فيه: «يمكن للانسحاب من الجولان أن يتمّ على مراحل، تنطوي توقيتاتها على شكل من التطبيع. نصف الجولان يمكن أن يفضي إلى إنهاء العداء.
ثلاثة أرباع الجولان، تفتح ممثلية لرعاية المصالح الإسرائيلية في السفارة الأمريكية. الانسحاب الكامل سوف يسمح بسفارة سوريا في إسرائيل».
وحين سألته رفكند عن العلاقات مع إيران و«حزب الله»، لم يقل المعلّم إنها «خطّ أحمر»، جرياً على الموضة الشائعة، بل أجاب ببساطة: نتولى أمرها بعد الانسحاب!
فإذا صحّ، في العودة إلى استهلال هذه السطور، أنّ «داعش» قدّمت في عرسال هدايا ثمينة إلى «حزب الله»، وخاصة لجهة اعتصار تسويغات جديدة لقتال الحزب إلى جانب الأسد في سوريا؛ فهل يصحّ أن تكون عرسال الراهنة واقعة منقطعة عن سياقاتها اللبنانية ـ اللبنانية، وخاصة تلك المتصلة بمعادلات سلاح «حزب الله»؟ أم أنّ عرسال الراهنة، ضمن استطرادات منطقية بسيطة وتبسيطية، ليست أقلّ من تنويع جديد لتلك المحاصصات الفاسدة، السياسية والطائفية والمالية، التي عاثت فساداً بحياة لبنان واللبنانيين، طيلة عقود، وشارك في صناعتها جميع الساسة والأحزب والقوى والفئات؛ بلا استثناء تقريباً، وفي الطليعة «حزب الله»، الشيعي، والإمامي، والإثنا عشري… من غير أهلّة اقتباس هذه المرّة؟
في صياغة أخرى، حين تفشل قوى 14 آذار، أو ما تبقى من ركام تكوينها السياسي، في التمييز بين ثلاثة مستويات للنقاش حول عرسال (حقّ أهل عرسال في طرد «داعش» من البلدة، ثمّ واجب الحكومة اللبنانية في الإبقاء على سلاح واحد شرعي في البلدة، هو سلاح الجيش؛ وأخيراً، ردّ واقعة حضور «داعش» في عرسال إلى جذورها، أي تدخّل «حزب الله» عسكرياً في سوريا لصالح نظام الأسد)؛ فإنّ مآلات هذا الفشل سوف تنتهي إلى اختزال عرسال لا كما يعلن الجيش اللبناني، أو يتشدّق الساسة الحريصون على قدسية «الخطّ الأحمر»؛ بل على النحو الذي يشتهيه «حزب الله» وحلفاؤه (لبنان إثنا عشري أمس، وطني اليوم، وغداً… لكلّ حادث حديث)، وبالتالي تسفر عن، وتفسح المجال كلّه أمام، تعبيرات عنصرية ومشاعر كراهية وحقد ضدّ السوريين.
أسئلة متروكة لإجابات اللبنانيين، ليس على مبدأ أنهم أدرى بشعابهم، فحسب؛ بل، كذلك، لأنّ الليالي من الزمان حبالى… مثقلات يلدن كلّ عجيب!