في أية بيئات سورية ظهرت السلفية العسكرية؟ – ياسين الحاج صالح
في أية بيئات سورية ظهرت السلفية العسكرية؟ – ياسين الحاج صالح
«داعش» ظاهرة عراقية أساساً، ولها هناك تاريخ يقارب اليوم عقداً من السنين، وما قبل تاريخ أفغاني عمره نحو عقد ونصف. عمرها في سورية عام ونصف، وهي هنا أقرب إلى قوية استعمارية بدائية.
ما يميز «جبهة النصرة» عن «داعش» هو ضعف المكون العراقي في الأولى، وقوة المكون السوري. الفرق بين «داعش» و»النصرة» يضاهي الفرق بين البعثين السوري والعراقي. الأول عنيف كفاية، لكن الأخير أعنف. الفرق أن البعث ذهب من سورية إلى العراق، فيما جاءت القاعدة من العراق إلى سورية. تعرض المجموعتان في الآن نفسه ضروب التماثل البنيوي والتضامن الجهادي والخصومة السياسية التي سبق أن عرضها البعثان.
في سورية، غير «النصرة»، مجموعات سلفية عسكرية، تشبه القاعدة فكرياً، لكنها خرجت من الظلمات السورية، وليس من ظلمات خليجية ومصرية وعراقية. الجامع المشترك لهذه المجموعات كلها هو الداعشية أو الاستعداد الداعشي، أو أيضاً السلفية العسكرية، مزيج من حكم فاشي وتطهير ديني وحركة عدمية غاضبة، من وراء تمايزات سياسية أقل أهمية.
في أي بيئات سورية ظهرت هذه المجموعات؟
طبعاً، في بيئات مسلمة سنية. هذا شرط إمكان تأسيسي لظهورها. لكن ما الذي طرأ على هذه البيئات حتى أنتجت «القاعدة» وأشباهها؟
يبدو لي أن هذه المجموعات ليست وليدة تسييس إسلامي بديهي لبيئات لديها هذا الاستعداد المبدئي، بل هي بالعكس وليدة الحجر السياسي على هذه البيئات، المصادرة التامة للحركية السياسية فيها، وكل ضروب العمل العام المستقل. بعبارة أخرى، ليست هذه المجموعات هي التعبير السياسي الطبيعي عن البيئات السنية، بل هي وليدة منع هذه البيئات من إنتاج تعبيرات سياسية مستقلة طوال نصف قرن.
معلوم أن سورية خبرت درجة متقدمة من استئصال وحظر كل نشاط عام، سياسي أو ثقافي أو اجتماعي طوال سنوات الحكم البعثي. وخلال نحو جيلين، لم تشهد أحياء وبلدات وقرى تقطنها أكثرية السوريين أي قدر من النقاش العام، أو تسمع وتُتداول آراء مغايرة، أو يجري فيها تنافس سياسي بين مختلفين. ولم يتح لبيئات السنيين السوريين الذين خرجت منها التشكيلات السلفية العسكرية الفرصة للتحزب، أو تجريب ممثلين سياسيين منتخبين خلال نصف قرن طويل، ولد وعاش في ظله ما قد يزيد على 90 في المئة من السوريين.
هذا الشرط العام أقل تأثيراً على الجماعات الأهلية السورية الأخرى لأسباب مختلفة. تماهي العلويين بالنظام ميسور، بصورة تلبي تحققاً سياسياً للجماعة، وحتى شعوراً بالعز. ولدى الكرد تنظيمات سياسية كثيرة، تشكل بمجموعها ما يشبه منظمة التحرير الفلسطينية بين ستينات القرن العشرين وثمانيناته كوطن سياسي لمحرومين من كيان خاص. والمسيحيون كانت تتراجع نسبتهم، ويوفر تماهيهم بـ «الحداثة» وجهة اجتماعية وهوية مميزة. السنيون عانوا أكثر من غيرهم من حرمان سياسي نسبي. أمامهم سلطة النظام، وهي تجمع بين الفوقية والإكراه والفساد والتمييز، ولديهم الدين كحد للفقر السياسي، وهو «دين عام»، يجري تعلمه في المدارس، ويحتكر سلطة تعريف الإسلام، ويحمل ذاكرة ومخيلة متشربتين بالسلطان. ولم تجر إعادة هيكلة له في ظل «الدولة الوطنية» المعاصرة، لا على مستوى المؤسسات، ولا على مستوى التعاليم والقراءات. ما فيه مـن ظلام قـديم حمله معه.
وحين سحق النظام الإخوان المسلمين سياسياً في مطلع الثمانينات، لم يكن ذلك في إطار مواجهة قوى متطرفة، وإفساح المجال أمام تعبيرات سياسية معتدلة. عِيشَ الأمر في الأوساط التي كان ينتشر فيها الإخوان كقطع رأس سياسي.
هناك، في المقام الثاني، حالة الانكشاف الأمني والسياسي والإنساني الشديد لهذه البيئات ذاتها في شروط الثورة السورية، واستهدافها التمييزي والانتقامي بأشد بطش الدولة الأسدية، بما في ذلك المذابح الطائفية. هذا يوفر شروطاً هي الأنسب للطلائع السنية التي جعلت من سياستها مزج الدين بالحرب. يريد السلفيون العسكريون أن يكونوا طليعة السنيين السوريين وأبطالهم. وميزة السلفيين المقاتلين للنظام هي طائفيتهم المبدئية الحازمة جداً. إنهم يحددون «شعب»ـهم تحديداً صريحاً، وهو يتعرض للعدوان، ويحددون عدوهم تحديداً صريحاً بعبارات طائفية.
ولافتقار هذه البيئات ذاتها لأي شكل من الحماية، بينما تواجه باستباحة متطرفة، شهدت عليها الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية في تقارير ووثائق معروفة، نشأ ما يعزز عدم الثقة بالعدالة الدولية والمؤسسات الدولية، وبقوى المعارضة العاملة معها والمتكلمة بلغتها، وبالقيم التي يفترض أن هذه القوى تدافع عنها، بما في هذه قيم حقوق الإنسان والمساواة المبدئية بين البشر والقانون الدولي. الواقع أن الغرب أظهر استعداداً طيباً لخيانة هذه القيم بسهولة أكبر حين يتصل الأمر بسورية منذ 44 شهراً، وبفلسطين في كل يوم. وحين نقرن بين الانشغال الإعلامي المدهش بكوباني/ عين العرب، وتنزيل الأميركيين إمدادات غذاء ودواء وسلاح فيها، وبين موت الناس جوعاً بالفعل في المعضمية ومخيم اليرموك والحجر الأسود والغوطة الشرقية، كيف لا يغذي ذلك مواقف عدمية تجاه العالم كله ومؤسساته؟
وفي مطلع هذا العام، بدا أن سورية مكونة من بلدة كَسَب ذات الأكثرية الأرمنية التي لم يقتل فيها شخص واحد، والباقي السوري الذي كان يقتل فيه يومياً العشرات. هذا أيضاً قبيح سياسياً، وأقبح أخلاقياً، ويؤلب السوريين على بعض بوعي أو من دون وعي.
وهو فوق ذلك منبع فياض للعدمية. إنه يزرع داعش.
وبصرف النظر عن البعد السياسي والحقوقي لهذه المسالك التمييزية، فقد دمرت القيم الأخلاقية التي تستند إليها أي مجموعة ديموقراطية وعلمانية في مجتمعنا، بقدر يكمل تدمير النظام لهؤلاء الديموقراطيين العلمانيين.
ما العمل حين يفقـر النـاس سياسياً طوال جيلين، ولا يجدون أمامهم عروضاً فكرية وسياسية بديلة، ويتعرضون للعدوان بكل الوسائل، ولا يحميهم أحد، ممن يظهرون استعداداً ميسوراً لحماية غيرهم؟ وهذا مع وجود خميرة تنشيط نمّاها النظام ذاته، وأطلقها معوِّلاً على دورها التخميري العدمي؟
هذا يوفر شروط إمكان كافية للتطرف والتطرف الفائق، إلى درجة أن ينقلب السؤال من: لماذا تظهر داعش؟ إلى: لماذا لا يكون السلفيون العسكريون كلهم مفرطي التطرف والوحشية مثل «داعش»؟ ولعل السبب أن داعش هي الوحيدة المستقلة فعلاً بين هذه المجموعات، ما يجعل الباقين أقل داعشية، والعقيدة هي العقيدة والمثال هو المثال، وهو أنهم مرتبطون بدرجات متفاوتة بدول وقوى إقليمية هي نفسها تابعة لغيرها. اعتدالهم «مستورد»، وليس ذاتياً. وتحول مجموعات فرعية «معتدلة» إلى الالتحاق بداعش تعبير عن برانية هذا الاعتدال ووهن أساسه الفكري.
والخلاصة، أن داعش وشبيهاتها ليست سياسة الإسلام الطبيعية، ولا السياسة المفضلة للسنيين، بل هي نتاج استعمار بيئات إسلامية سنية وتفريغها من كل سياسة. هذا يوفر تهيؤاً مناسباً لضرب من «وطنية سنية» استعدادها قوي للتطرف. شروط العدوان والانكشاف ليست مناسبة للمعتدلين، والتطرف في مثل هذه الشروط صلابة في وجه العدوان، واستراتيجية لحيازة السلطة والنفوذ على حساب المنافسين. يُقوي التطرف الفائق ويضعف أية بدائل أخرى سحب الثقة العام من العالم والقوانين الدولية.
وهذا على خلفية مركّب مخيلة – ذاكرة مسكون بالعتو والسلطان.
الداعشية أو الاستعداد الداعشي وليد اجتماع ظلم فادح بظلام مكرس. ومواجهة الاستعدادات بالطائرات والصواريخ لا تثمر. فقط تزيد الظلمات ظلمات.