قربان.. لم يقبل بعد! – أمجد ناصر
هل يعيد التاريخ نفسه؟ هذا سؤالٌ قديمٌ قِدَمَ التاريخ نفسه. كل تشابه بين حالتين أو ظاهرتين يعيد التذكير بالتاريخ، وما إذا كان يتكرّر، أو يتحرك الى الأمام أو الى الوراء. الشيء المؤكد، بعيدا عن التورط في هذا الجدل « التاريخي »، أن التاريخ لا يحدث بعيدا عن ذوي الإرادة الفاعلة فيه: البشر. فلا تاريخ من دون بشر ولا بشر من دون تاريخ، وما دامت الأفعال البشرية متشابهة، أو ممكنة التشابه، فالتكرار، أو ما يشبهه، ممكن الحدوث. هذا هو تاريخ غزة المنظور يكرّر نفسه. منذ أمد وهو يكرّر، تقريباً، وقائعه وأحداثه وردود أفعال محيط المدينة المتروكة لقدرها. التاريخ يتكرر. لأن الاحتلال بقي على حاله. وهو يكرر « وظيفته » ما بقيت هذه الوظيفة مطلوبة وتؤمن الغرض منها. الأمر الذي يستدعي فعلا (أو رد فعل، كما هو الواقع الآن) في مواجهته. ستبقى الحال، على ما هي عليه، ما لم يكسر الفلسطينيون والعرب هذه الحلقة من الفعل ورد الفعل، ويُخرجوا المنطقة من منطق تكرار التاريخ الى صناعته. *** وفعلاً، كاد هذا أن يحدث مع الثورات والانتفاضات، التي اجتاحت العالم العربي بُعيد تلك النار التي امتدت من جسدٍ ( قربانٍ فرديٍّ على طريقة الديانات القديمة) لتعصف بهشيم الحياة العربية المتراكم. لقد اختبر العرب، لأول مرة في تاريخهم الحديث، قوة احتجاجهم، قدرة أجسادهم، من دون سلاح، على صنع ثورات – قدوات على الصعيد العالمي حتى إن أدوات احتجاجهم ووسائطه تحولت الى مفردات عالمية. لكن الرّياح لم تجرِ كما تشتهي السفنُ، فقد حشدت قوى الانظمة المستبدة، وطبقاتها الاجتماعية والاقتصادية، كل قواها لإبقاء رأسها طافياً في بحر الغضب الشعبي. وضعت نفسها، بمساعدة الجهاز البيروقراطي للنظام « القديم »، في حالة كمون استعدادا للانقضاض على الثورات السلمية (مصر)، أو العمل على حرفها الى خيار العسكرة، الذي فيه حتفها (سورية)، لأن لا ثورة عربية قادرة على الانتصار بالسلاح في مواجهة أسلحة النظام، إلا اذا كان هذا الانتصار بفعل خارجي (الحالة الليبية) وثمنه دخول البلاد في نفق حرب أهلية، قد تأتي على الأخضر واليابس. فالنظام، في غالبية الدول العربية، ليس مجرد نخبة حاكمة بقوة السلاح، منبتة الجذور، بل قادم من منبت اجتماعي (الطائفة، القبيلة، الاثنية) يقاتل معه حتى الموت، لأنه يظن، محقاً بعض الشيء، أن زوال النظام يعني زواله على المستوى الجسدي: تصفيات، مجازر، تهجير إلخ.. وقد وجد الدكتور عزمي بشارة في « الحالة السورية » (كتابه، سورية: درب الآلام نحو الحرية، المركز العربي، 2013) نموذجاً للبلد العربي المركب، طائفياً ودينياً وإثنياً، الذي يصعب التمييز فيه بين النظام والدولة، والنظام وجماعات أهلية تجمع بين المجتمع والنظام، وتمكن الأخير من استثمار ولائها في استخدام مفرط للعنف، دفاعاً عن النظام، حتى النهاية، باعتبار ذلك دفاعاً عن النفس. ليس النظام السوري فريداً في هذه الحالة. فها هو العراق يتراءى لنا كذلك، فضلاً عن أمثلة فاقعة مشابهة: اليمن، ليبيا، السودان إلخ.. النموذج الوحيد المغاير هو مصر. وما جرى في مصر ينبطق عليه ما قلته عن « كمون » قوى النظام القديم، ومجاراتها لمناخ الثورة ثم الانقضاض عليها عندما تحين الفرصة. *** إن الدائرة التاريخية المتكررة بيننا وإسرائيل لا يمكن كسرها، إلا بتغيير جذري في محيط فلسطين. كان أحد شعارات اليسار الفلسطيني المقاتل يقول(في مواجهة شعار فتح بعدم التدخل في الشؤون العربية)، إن لا تحرير لفلسطين من دون تحرير محيطها. هل هذا شعار خشبي؟ من يقول ذلك عليه أن يرى الى وضع غزة الآن، وقبله مآلات الانتفاضات الفلسطينية السلمية المتعاقبة.. كيف ستنتصر ثورة فلسطينية وهي محاطة بقوى أشدّ عداءً للثورة والتغيير من اسرائيل ذاتها، بل متحالفة مع حلفاء اسرائيل نفسها؟ يستحيل. وهذه غزة تطالب بفتح المعابر ليس إلا.. فتح المعابر باعتباره إجراء ثورياً!