كما في الأرض كذلك في الكلمات – نوري الجراح
سئلت مرة عن الصلة بين الشعر والرحلة، وما الخسائر لشاعر إذا ما ترك نفسه يعنى بأدب الرحلة؟ ما الذي سيكتشفه وما الذي سيجهله من علاقة هذا بذاك؟
وهذا السؤال يحملنا على الاعتقاد بأن الأشياء في العالم مترابطة بطريقة رائعة مرات، ومؤلمة مرات أخرى.. كل سطر في كتابات الرحالة – عرباً وغيرهم -يجعلني أقرب من الأرض أمكنةً ومسافاتٍ، بعيداً عن تجريد الأفكار والصور الذهنية التي تغمر الكتابة العربية وعوالمها، لا سيما الفلسفة، وكذلك التاريخ، كما وصلنا في كتب الدرس الأكاديمي على الأقل. تبدو لي يوميات الرحالة رغم ثرثرتهم في أغلب الأحوال، وتشعب موضوعاتهم، واستطراداتهم التي لا طائل من ورائها أحياناً، تبدو لي أقرب إلى الخصوصي، إلى الشخصي، إلى اليومي، إلى ما هو غير رسمي باستمرار، وأحيانا مع بعض الرحالة، إلى الشعري بامتياز. أستعيد الآن ابن فضلان من القرن العاشر الميلادي في سفارته من بغداد عاصمة الخليفة المقتدر إلى بلاد الصقالبة (روسيا اليوم). هناك صور مروعة في واقعيتها وسحريتها معاً.. كذلك الحال بالنسبة إلى أبي دلف المسعري الذي عبر جغرافية آسيا الوسطى عبر إيران قادماً من جزيرة العرب، وتحديداً من البحر الأحمر. كم من الشذرات الأسطورية في ما نقله هذان الرحالتان إلى سطورهما العربية. ولو فارقنا القرن العاشر الميلادي وجئنا إلى القرن الرابع عشر، فنحن مع ابن بطوطة، على رغم تدخل ابن جزي المأمور بكتابة رحلة شمس الدين الطنجي من قبل سيده السلطان أبي عنان، بإزاء النَفَسَ الشخصي، والتجارب الشخصية وروح المغامرة الفردية ظلت مهيمنة على نص ابن جزي المسمى رحلة ابن بطوطة أو « تحفة النظار ». وكم من الخيالات الغريبة وكم من المدهش والعجيب الذي لا يدانيه إلا فضاء الشعر في رحلة ابن بطوطة. أليس في وسعي أن اقرأ نص شهرزاد في ألف ليلة وليلة بصفته جامع رحلات الواحدة منها تستولد الأخرى كما الحكايات؟ كم من الشعري في ألف ليلة وليلة، وليس أي شعري وإنما الخاص بتجارب المهمشين، برفات أرواحهم وأمنياتهم الشاطحة شطحاً في أرض العجائب. من جهة أخرى، فإنني أنظر إلى نص الرحلة بصفته طفولة الرواية، وأرض الوقائع المختلفة لرحلة الإنسان في أرض الآخر. إن شعريتها تطلع من ذلك السفر بحثاً عن الذات على تخوم الآخر، اعتراف بالنقصان، ونشدان للامتلاء في أمكنة مجهولة، وبالتالي إقرار بجمال المجهول وامتداح له، وفي هذا إغراء كبير لقاريء مغامر مثلي ليس لديه ما ينتمي إليه أكثر من انتمائه إلى الشعر بوصفه الدنيا. أو ليست الرحلة مقلوب هذه القاعدة كما يريد رحالة العصر الحديث أن يقولوا، أو يعبِّروا. الرحالة الحديث هو الشاعر. ومادام العالم قد اكتُشِفَ منذ زمن بعيد، ولم يعد ثمة ما يكتشف فيه، فلم يعد على الرحالة حسب تعبير الكاتب الروائي علي بدر إلا أن يكون شاعراً. أعجبني هذا التعبير. على هذه التخوم، فإن كل إضافة معرفية، بالنسبة إلى الشاعر، هي ربح كبير يشبه خسارة كبيرة. فنحن ليس لدينا في العالم إلا ما نخسره، كلما عرفنا جديداً اكتشفنا فداحة جهلنا بالوجود، وكلما امتلكنا شيئاً شعرنا بعده بفقرنا وفراغنا، هذه هي الحقيقة الأخيرة لنا كبشر، وما دمنا على وعد مع الفناء، فإن كل يوم يضاف إلى أعمارنا ويبدو ربحاً هو يوم ناقص من أعمارنا، نحن على موعد مع الموت، وحركة الزمن فيصل في هذا الأمر. *** أريد أن أضيف أن الصلة بين الشعر والرحلة متعددة الزوايا والأبعاد، ويصعب حصر كل ما يخطر في بالي الآن عن تلك الخيوط المتشعبة التي تصل بين هذين الأفقين: الرحلة والشعر. المسألة في جوانب منها تتصل بالشعور الفادح باليتم، وبالرغبة في الحرية.. الشاعر مسافر يتيم في العالم، باحث عن الحرية، ناشد جمال، جواب آفاق لم تطرق كما في الكلمات كذلك على الأرض، وكما على الأرض كذلك في الكلمات. *** الشعر حركة مستمرة ضد جمود العالم، ضد الثبات بصفته طغياناً مخيفاً، ضد كل سلطة آسرة ومربكة لطلاقة الروح كذلك هو السفر، إنه الشعر. الشاعر هو ذلك المسافر مجاني السفر، المسافر الذي لا يريد مكافأة عن رحلته لأن مكافأته هي قصيدته التي رجع بها من سفر في المجهول، مجهول العالم ومجهول الكلمات. بهذا المعنى فإن السفر لا يكون ذا قيمة ما لم يكن شعرياً في أفقه. بعض المسافرين لم يكونوا مجرد سياح وإنما كانوا جماليين كباراً، دونوا يوميات مذهلة في جمالها، هم لم يفعلوا هذا، أعني لم يمكنهم أن يكتبوا بهذا الإغواء لنا إلا لأنهم كانوا شعراء. |