كييف.. الكلمة ما تزال للميادين – عيسى الشعيبي
بعد سلسلة الانتكاسات التي شهدتها بلدان « الربيع العربي » في الآونة الأخيرة، وانصراف الحشود الشعبية عن الميادين وساحات التحرير التي بدت المصدر الأوحد للشرعية الثورية في حينه، وغدت رمزاً باذخاً لموجة التغيير التاريخي الملهمة لشعوب أخرى عديدة، ها هي الميادين تعود بدلالتها التأسيسية الأولى، من كاراكاس وبانكوك، مروراً بكييف، لتسترد عافيتها السابقة، وتستعيد نفسها كقوة دفع مركزية لا تُكسر، ونقطة انطلاق متجددة، تُنتج ثم تعيد إنتاج موجة التغيير ذاتها على نطاق أشمل من الرقعة العربية.
إذ بوضع التفاصيل الكثيرة المتعلقة بالتطورات الأوكرانية الأخيرة جانياً، وغض البصر قليلا عن مآلاتها المحتملة في المدى المنظور، فإن المشهد الآتي من ساحة الاستقلال في كييف العاصمة، وما تمخض عنه من تغيير عميق وسريع في بنية سلطة استبدادية نمت تحت ظلال هيمنة روسية فظة، يقول لكل من يعنيهم الأمر: إن الكلمة الأخيرة ما تزال للميادين، بما في ذلك الميادين العربية التي لم تنطفئ نارها بعد، رغم كل ما غمر جمراتها المتّقدة من رماد ساخن.
بمثل هذا الفهم لسياقات الحدث الكبير في أوكرانيا، البعيدة عنا جغرافياً وثقافياً، فإنه يمكن القول إن ساحة الاستقلال في كييف قد ردت الاعتبار مجدداً لساحات العالم العربي وميادينه، التي كان لها فضل السبق في إطلاق موجة التغيير العالمية هذه، وفي إظهار قدرة الشعوب على إعادة الإمساك بزمام أقدارها، وصنع أقدارها؛ الأمر الذي يدعو إلى التفاؤل حقا، ويستحق الاحتفاء به من جانب من ساورتهم الشكوك بين ظهرانينا بعدمية « الربيع العربي »، وراحوا يقرضون معلقات الهجاء ضد بعض مخرجاته الثانوية.
وفي عصر ثورة الاتصالات التي جعلت العالم أشبه بقرية كونية صغيرة، فقد كان من المقدر للزلزال السياسي في أوكرانيا أن يُحدث موجة من الارتدادات الجانبية المواتية لبعض بلدان « الربيع العربي »، وفي المقدمة منها سورية التي وقعت، لسوء الحظ، في براثن لعبة « روليت » روسية مميتة، وآلت إلى بيدق على رقعة شطرنج دموية، أمسك به فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، وراحا يحركانه في مسار حرب باردة جديدة، لتصعيد مكانة القياصرة الجدد على سلّم العلاقات الدولية، ومعاقرة وهم استرجاع مجد الحقبة السوفيتية العظيمة.
ومع أن الوقت مبكر للقفز نحو الاستنتاجات السهلة، والتعويل كثيراً على المضاعفات المحتملة للحدث الأوكراني الكبير، فإن على عين المراقب ألا تخطئ الأبعاد واسعة الأثر لتحقق أول انكسار عميق في خط بيان الصلف الروسي، الصاعد فوق جملة من النجاحات التكتيكية المتوحشة في حقل الرماية السوري، لاسيما وأن الارتكاسة في فناء موسكو الخلفي، إن لم نقل في صحن دارها، هي أمر غير قابل للتعويض بإنجازات مؤقتة، ومكاسب عرضة للتبدد في ساحة شرق أوسطية مفعمة بالتقلبات المفاجئة.
ولعل امتناع موسكو لأول مرة عن استخدام حق النقض « الفيتو » في مجلس الأمن بشأن سورية، وسماحها بمرور قرار دولي يُلزم دمشق بفتح الحدود أمام قوافل المساعدات الإنسانية، وهو الأمر الذي يعتبره نظام الأسد انتهاكاً لمبدأ السيادة، نقول لعل هذا الامتناع المتزامن مع الانتكاسة الروسية في أوكرانيا، هو بمثابة تباشير صبح على بداية تبدل في قواعد اللعبة التي برعت روسيا في استخدامها على مدى ثلاث سنوات؛ حيث تمكنت بتكنولوجية صواريخ « سكود » والقنابل العنقودية حيناً، وممارسة حق النقض حيناً آخر، من تدمير البلد العربي الشقيق، وإزهاق أرواح مئات الآلاف من أبنائه، في سبيل حصولها على لقب دولة كبرى تنافس دولة عظمى وحيدة.
على أي حال، فقد كان رفع علم الثورة السورية في ساحة الاستقلال الأوكرانية، واقعة ذات مغزى عميق، لا تستعصي دلالاتها فوق الرمزية على أفهامنا العربية؛ كونها تنم عن إدراك عميق، وحس شعبي رهيف، خصوصاً لدى من يراهم لافروف في كييف كعُصاة انقلابيين فاشيين، ويراهم في دمشق كإرهابيين تكفيريين، بأن المعركة ضد الاستبداد واحدة، وأن ظهير الطغاة هنا وهناك واحد. وبالتالي، فإنه حين يتم كسر ذراع بوتين في العاصمة الأوكرانية، فسيتم ليّها في العاصمة السورية، ولو بعد وقت قد لا يكون طويلاً.