لماذا يطالب صهاينة مخضرمون بدعم ‘الجبهة الإسلامية’ في سوريا؟ – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 10 janvier 2014

في نيسان (أبريل)، السنة الماضية، بلغ الخلاصة التالية، الصريحة الواضحة، والتي بدت صادمة حتى لدى متابعيه ومريديه: ادعموا بشار الأسد، ضدّ الثائرين عليه! اليوم، بعد ثمانية أشهر، آن أوان الخلاصة الأخرى، المناقضة المعاكسة، التي لا تقلّ صراحة ووضوحاً، ويتوجب أن تصدم الرهط إياه: ادعموا الثائرين على الأسد، ليس ‘العلمانيين’ أو ‘الديمقراطيين’ أو ‘الليبراليين’ بالضرورة، بل ‘الجبهة الإسلامية’ تحديداً: ‘يشقّ عليّ هذا، ولكني أصادق على دعم الجبهة الإسلامية. هنا أيضاَ، ليس لكي تفوز، بل لكي تخوض يوماً إضافياً في المعركة ضدّ النظام الأسدي البغيض، ومناصريه الإيرانيين وحزب الله’.
هكذا تكلّم دانييل بايبس، الكاتب الأمريكي ـ اليهودي، كاره العرب، وقبلهم المسلمين، لا كما فعل أو يفعل أيّ قرين له في الكراهية؛ وبمقدار من الاستيهام، الممتزج بالعنصرية، والمغالطات التاريخية، والخفة التحليلية، لا يجاريه فيه أحد، في الولايات المتحدة وإسرائيل معاً، والحقّ يُقال. بايبس، في هذا، أشدّ صهيونية من تيودور هرتزل نفسه ربما، في صفّ الأموات؛ وأكثر إسرائيلية من بنيامين نتنياهو، في عداد الأحياء، الأمر الذي يبرّر القول بأنه آخر الليكوديين على الأرض. ليس أقلّ أهمية، بالطبع، أنه النموذج الإعلامي الأخطر في تمثيل قصة الغرام بين النظام السوري وإسرائيل، من جهة أولى؛ وفي النياية عن رهط من المراقبين الغربيين الذين فضّلوا، ويفضّلون، بقاء الأسد (بوصفه ‘الشيطان الذي نعرف’)، على أيّ بديل آخر، أياً كانت صفاته.
وفي مقالته الجديدة، التي سارت تحت عنوان ‘نعم، ساندوا الثوار السوريين؟’ وحملت التطوّر الأحدث في عقيدته حول الشأن السوري، يبدأ بايبس باعتراف يتوسل النقد الذاتي الخفيف، فيقرّ بأنّ العنوان ‘ساندوا الأسد’، الذي حملته مقالة نيسان، 2013، كان ‘غير دقيق بعض الشيء، وتوجّب أن يكون: ساندوا أيّ طرف يخسر في الحرب الأهلية السورية’. فهل ‘الجبهة الإسلامية’ تخسر، هذه الأيام، لكي يطالب بايبس بدعمها، استناداً إلى خطّ تفكيره الجديد؟ كلا، أو ليس التدقيق في الأمر مهماً عند بايبس، خاصة وأنه اتخذ الموقف الجديد قبل اندلاع المواجهات العسكرية بين ‘داعش’ والكتائب الإسلامية الأخرى. يهمّه اعتباران، حصريان تقريباً لأنه لا يسوق سواهما: 1) ‘ليس علينا أن ندعم أيّ طرف على أمل انه سيفوز، بل فقط لكي يمنع الطرف الثاني من الفوز′؛ و2) لأنّ ‘مساعدة الجهاديين السنّة في سوريا ضدّ النظام يخدم التوازن’، في اتفاقية جنيف حول البرنامج النووي الإيراني.
فتشوا عن صيانة مصالح إسرائيل، إذاً، في كلّ جديد، أسوة بكلّ قديم، لدى هذا الصهيوني ـ الليكودي المخضرم؛ ولا عناء، بعدئذ، يحتاج إليه المرء إذْ يقارن بين خلاصة هنا، وأخرى هناك، تساند الأسد تارة، أو تزعم دعم خصومه طوراً. الفحوى الكبرى، في الخلاصات جمعاء، هي التالية: الأسد دكتاتور، لا خلاف؛ يداه مضرّجتان بدماء السوريين، لا ريب؛ وهو، وأفراد عائلته من أبناء عمومة وخؤولة، يحكمون سوريا بالحديد والنار، وينهبون خيراتها، بالتأكيد؛ ولا شك، أيضاً، في أنه حليف إيران، وممرّ السلاح إلى ‘حزب الله’… كلّ هذا صحيح، ولكن تخيّلوا لحظة واحدة أنّ هذا النظام سقط غداً أو بعد غد؟ فكّروا في عواقب الحرب الأهلية، خاصة حين يكون التشدد الإسلامي هو البديل؛ واتركوا هذا النظام على قيد الحياة، فهو الضامن لكم ـ في الغرب عموماً، وفي الشرق أيضاً، ولكن في إسرائيل أوّلاً ـ من شرور انقسام سوريا إلى طوائف وشيع ودويلات!
ويحدث، دائماً، أن يتفاخر بايبس بأنه منكبّ على الملف السوري منذ سنة 1985، ضمن قناعة ثابتة بأنّ الانقسام السنّي ـ العلوي هو جوهر السياسة في البلد. وغالباً ما يذكّر بدراسة أولى، عنوانها ‘إحكام القبضة العلوية على السلطة في سوريا’، 1989، أوضح فيها كيف أنّ جماعة صغيرة وضعيفة تاريخياً تمكنت من بلوغ الذروة؛ ودراسة ثانية، عنوانها ‘سوريا بعد الأسد’، 1987، بيّنت أنّ الانقسام الإثني، هذه المرّة، آت إلى سوريا لا محالة. بيد أنه لا يقول إنّ ذلك الانقسام لم يقع، حتى الساعة في الواقع، بعد مرور ربع قرن على نبوءاته المشؤومة، من جهة؛ كما يتجاهل أنّ 13 سنة انقضت بعد أن تنبأ برحيل الأسد (استناداً إلى المعلومات عن مرضه، آنذاك)، ظلّ فيها الأخير حياً يرزق، بل نجح في تجاوز عثرة وفاة نجله باسل، المرشّح الأوّل لوراثته، وامتلك الوقت لتوريث نجله الثاني، بشار!
وكان رأي بايبس في الانتفاضة السورية قد بدأ، منذ أواسط 2011، يتقلب بين خلاصة وأخرى، نقيضة أو مطابقة لا فرق؛ ما دامت القاعدة الذهبية العتيقة، والمعلَنة، هي الرهاب من وصول الإسلاميين إلى السلطة؛ والغرض الذهبي العتيق، الخفي، هو مصلحة إسرائيل، والخشية من ‘قوس سنّي’ يتشكل ضدها، من تونس إلى مصر إلى غزّة، وصولاً إلى سوريا ما بعد الأسد. لافت، مع ذلك، أنّ إطلالته على ‘الربيع العربي’ كانت متفائلة في البدء، ليس دون تعليق انتفاضات العرب على أكثر من مشجب، يأتي في طليعتها ما يسمّيه ‘الحرب الباردة الشرق ـ أوسطية’ مرّة، أو ‘الشطرنج الإقليمي’ مرّة أخرى؛ ولكنه لا يحيلها، في أيّ مثال أو سياق، إلى إرادة الشعوب، والتعطش إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، إزاء قبائح أنظمة الاستبداد والفساد.
ولديه، في تشخيص عناصر هذه الانتفاضات (التي يحصرها بين ‘التمرّد’ و’العصيان’، وليس الانتفاضة أو الثورة)، ثلاثة مستويات من ‘التأمل’. الأوّل هو أنها ثمرة تصارع فريقَيْ الحرب الباردة الإقليمية: معسكر إيران و’المقاومة’، ويسعى إلى ‘هزّ أركان النظام القائم، واستبداله بآخر إسلامي أكثر تقوى، وأشدّ عداء للغرب’؛ ومعسكر السعودية، وهو صفّ ‘الأمر الواقع′، الذي يضمّ معظم ما تبقى من دول المنطقة، بما في ذلك إسرائيل، و’يفضّل الحفاظ على الأمور كما هي، في قليل أو كثير’. المعسكر الثاني ‘يتمتع بخاصية تقديم رؤية’، والمعسكر الأوّل يتميز بـ’القدرة على نشر المدافع، والكثير منها’.
المستوى الثاني يذهب إلى أنّ ‘التطورات’ في تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين ذات مغزى كبير، ولكن المغزى الأكبر هو في ما ينتظر ‘العملاقين’ قائدَي المعسكرين، إيران والسعودية. صحيح أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكنت من احتواء الاحتجاجات الشعبية في حزيران (يونيو) 2009، على خلفية الانتخابات الرئاسية؛ إلا أنّ النار ما تزال تحت الرماد، وانهيار ‘نظام الخميني’ ليس بعيد الاحتمال، وعواقب حدث كهذا تشمل أمن إسرائيل، والأمن النووي في المنطقة، ومستقبل العراق، وسوق الطاقة الدولي، و’معسكر المقاومة’ ذاته في المقام الأوّل. ورغم أنّ السعودية تتباهى بنظام مستقرّ، تقوم ركائزه على ‘مزيج فريد من العقيدة الوهابية، والسيطرة على مكة والمدينة، واحتياطي النفط والغاز′، إلا أنّ ‘الفوارق الجغرافية والإيديولوجية والشخصية بين السعوديين يمكن أن تتسبب في انهيار النظام’.
مستوى التأمل الثالث، والأهمّ في نظر بايبس، هو أنّ ‘حركات التمرّد’ العربية الأخيرة بدت ‘بنّاءة’ و’وطنية’ و’ذات روح مفتوحة’، فغاب عنها ‘التشدد السياسي في كلّ أنواعه، اليساري منه أو الإسلامي’، وكذلك غابت الشعارات المناهضة للولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل. فما الذي قرأه في ما زعم من خصائص، يراها جديدة على الشارع العربي؟ أنها، ببساطة، قد انفكت تماماً عن ‘تشدد القرن الماضي’، كما صنعه رجال من أمثال المفتي أمين الحسيني، جمال عبد الناصر، آية الله الخميني، ياسر عرفات، وصدّام حسين. ولهذا، إذْ يمنحنا هبة الإقرار بأنه كان على الدوام متشائماً حول آفاق الديمقراطية في العالم العربي، والإسلامي عموماً، يتواضع بايبس فيتنازل ويهتف: أنا متفائل!
أهو متفائل، اليوم أيضاً، في ضوء تطورات بلدان ‘الربيع العربي’ عموماً، وسوريا خصوصاً؟ في نيسان الماضي، أيضاً، خلال حوار متلفز، برّر بايبس مطالبته بأن يتدخل الغرب عسكرياً لإنقاذ الأسد، على هذا النحو: ‘موقفي ليس نابعاً من أي تعاطف مع نظام الأسد أو إعجاب به، فهو نظام فظيع جدير بالازدراء. ولكني إذْ أنظر إلى الموقف ككلّ، نظام الأسد البغيض، والمتمردين الذين يزدادون فظاعة، أعتقد أنّ الأفضل لنا هو أن يواصلوا الاقتتال فيما بينهم. لا أريد منتصراً في هذه المعركة يتولى قيادة سوريا، ويصبح جاهزاً لقتال جيرانها. ونحن في حال ستراتيجية افضل إذا ركّزوا على بعضهم البعض، وهذه نقطة ستراتيجية وليست إنسانية’.
وإذْ يُطرح عليه سؤال إيران، يرتدّ بايبس إلى نقطة التناقض الأصلية في أطروحته، أي تشجيع اقتتال السوريين فيما بينهم، ومساندة الأسد ضدّ المعارضة، في آن معاً؛ فيقول: ‘في سوريا إسلاميون سنّة يقاتلون إسلاميين شيعة. الإسلاميون المدعومون من تركيا، يقاتلون الإسلاميين المدعومين من إيران. حسناً، دعوهم ينخرطون في هذا، ولنساعدهم في مواصلة القتال فيما بينهم’! ولو أنّ بايبس توقف هنا، لما كان في تصريحاته ـ على بشاعتها، وانحطاطها، ودعوتها الصريحة إلى تشجيع الإبادة الجماعية ـ ما يدهش كثيراً؛ باستثناء مقدار النفاق الذي تنطوي عليه، من حيث أنّ وقائع التاريخ القريب والبعيد تبرهن أنّ نظام ‘الحركة التصحيحية’، الأسد الأب مثل الأسد الابن، لم يشكّل أي تهديد جدّي لإسرائيل.
والأصحّ، بالطبع، أنّ بايبس سعيد بأن تُدمّر سوريا حتى لا يبقى فيها حجر على حجر، وأن يستهلك النظام الصواريخ السورية، الـ’سكود’ تحديداً، في قصف حلب والرقة، بدل تل أبيب وديمونة؛ وأن تُدمّر ترسانة النظام من الأسلحة الكيميائية في عرض البحر، بدل أن يسقط ما وزنه غرام واحد منها على ‘أرض إسرائيل’. وإذا صحّ أنّ المعادلة العسكرية مختلة، بشدّة، ضدّ المعارضة؛ لصالح نظام يتلقى الدعم، العسكري والمالي والبشري واللوجستي، من إيران وروسيا و’حزب الله’ اللبناني، و’حزب الله’ العراقي؛ فإنّ ما يصحّ، استطراداً، هو أنّ بايبس ينتهي عملياً إلى هذه الخلاصة: لا تسمحوا بهزيمة الأسد، وانصروه، فهو الأفضل لمصالحنا الستراتيجية.
وإذْ يرى أنّ الثائرين على الأسد ليسوا دعاة إصلاح وطلاّب مستقبل أفضل، بل هم ببساطة ضحايا ‘هوّة لا تُجسر’ بين الطائفتين، السنّة والعلويين؛ وأنّ الشارع السياسي السوري ليس معارضاً، بقدر ما هو حشود منساقة خلف أطراف الاقتتال الطائفي؛ فإنّ حماس بايبس إلى مساندة ‘الجبهة الإسلامية’ ليست أقلّ من دعوة إلى صبّ الزيت على النار، كما يريد لها أن تستعر، لصالح الخلاصة الكبرى: حافظوا على نظام الأسد، ما دام يحفظ أمن إسرائيل!