ماذا يريد اللبنانيون؟ – الياس خوري
اسأل نفسي وسط الأسى الذي يخيم على بيروت وهي تشيّع محمد شطح، عشية رأس السنة، عن قافلة الشهداء الذين قضوا اغتيالا، في الصراع المرير الذي دخله لبنان، من اجل ازاحة كابوس الهيمنة التي مارسها النظام السوري. ما معنى رسائل الموت هذه؟ هل انتهت الحياة السياسية اللبنانية في هاوية القتل المنظّم الذي لا رادع له؟
اللافت هو ان هذا القتل المنظّم والمتدحرج يتقاطع مع نذر حرب اهلية باتت معلنة في شعاراتها الطائفية التي تقود الى هاوية الصراع المفتوح بين السنة والشيعة. هاوية لا قعر لها، لأنها تمتد على مساحة المشرق العربي برمته، منالعراق الى لبنان مرورا بسوريا، كما تقرع ابواب الخليج العربي، منذرة بجحيم لا سابق له.
لماذا وكيف تحولت بشائر الربيع العربي، حين انتفضت الشعوب ضد الاستبداد، الى كوابيس طائفية، والى دمار شامل نجح الاستبداد في سوريا، في تعميمه على المنظقة بأسرها؟
لا شك اننا امام عناصر متداخلة، يلعب فيها العاملان الاقليمي والدولي دوراً اساسياً، لكن هذا لا يعفينا من محاولة قراءة الوقائع المحلية المرتبطة بالتجارب المختلفة التي عاشتها وتعيشها دول المنطقة. فالسعار الطائفي العراقي يختلف عن جنون الاستبداد السوري وان تقاطعا، كما ان المأزق اللبناني الحالي يختلف عن مسارات الحرب في سوريا وان تداخلا.
تعالوا الى لبنان كي نقرأ مسار انحداره الجديد الى حافة الحرب الأهلية، وهو مسار حزين، لأنه يؤشر الى انسداد سياسي تكويني، لم يستطع توظيف انجازين كبيرين حققهما اللبنانيون في بناء وحدة وطنية سياسية تؤسس للاستقلال: طرد الاحتلال الاسرائيلي عام 2000، والخلاص من استبداد النظام السوري عام 2005.
لم يكن هذا التوظيف ممكناً لأن الانجازين حملا سمات الانقسام الطائفي اللبناني، فبرز تناقض غريب بين التحرير والحرية. صار التحرير امتيازاً شيعياً ووسيلة للضغط من اجل مكاسب داخلية من جهة، وتدعيم محور اقليمي من جهة ثانية. كما اعتبرت الحرية انجازاً سنياً، يسمح بادخال لبنان في معادلة اقليمية جديدة، كما يرسّخ هيمنة سياسية سنية تستند الى تقوية موقع رئيس الحكومة السني.
كما ترون، فإن الشعارات الكبيرة يتم صرفها وتداولها في لبنان في صغائر الأمور. النصر الكبير عام 2000، الذي كان يعني ان لبنان يستطيع ان يكون الدولة العربية الوحيدة التي حررت ارضها من دون مفاوضات واعتراف باسرائيل، جرى تبديده في الشبكة الاقليمية التي ربطتنا بالنظام السوري الذي لم يطلق رصاصة واحدة ضد اسرائيل، وذلك من خلال الوصي الايراني على المقاومة. كما ان الحلم الاستقلالي الذي برز في 14 آذار/مارس 2005، اجهض، حين اكتفى قادته بنصف ثورة، معتقدين ان هذا يسمح لهم بأن يقتسموا امتيازات السلطة.
وتعززت الخيبات عبر استمرار الحرب الأهلية المارونية بصيغة متجددة، هي الصراع بين العونيين والقواتيين، وهما جناحان آتيان من تجربة بشير الجميل البائسة، التي قوضت شرعية الغلبة المارونية، عبر سياسات دموية قامت بتصفية الخصوم الداخليين، وكسرت المحرّم الأكبر وهو التحالف مع اسرائيل بشكل علني ووقح.
هكذا اعيد انتاج الانقسامات اللبنانية بين سنية سياسية تملك المال ولا تملك السلاح، وبين شيعية سياسية تملك السلاح وقادرة على التفوق مالياً على خصمها.
لبنان اليوم امام هذا الانقسام العميق، الذي يعززه غياب مفجع للقوى المدنية والعلمانية، التي فقدت نفوذها وتحولت الى مجموعات تنشط في وسائل الاتصال الاجتماعية، معوضة عن غيابها المحزن بالكلام والثرثرة الفيسبوكية، التي اوصلها زياد الرحباني الى نهايتها المضحكة عبر اصراره على ان يكون نجماً في سماء تهاوت نجومها.
من الواضح ان حزب الله وحلفاءه يشعرون اليوم بالتفوق على خصومهم، وهم يسعون الى فرض سلطتهم على ما تبقى من السلطة. وتفوقهم ناجم عن شعور حليفهم في دمشق بأنه، وبعدما خلع الكيماوي كي يرضي امريكا واسرائيل، يستطيع ان يتابع سياسة احراق سوريا الى ما لا نهاية، مستندا الى الدعم الايراني والروسي، ومتذرعا بالمتطرفين الذين اطلقهم من سجونه وزرعهم في قلب الثورة.
تفوق حزب الله لن ينصرف سياسياً الا بالعنف، هذا ما اثبتته احداث 7 أيار/مايو 2008، التي انتهت الى تسوية الدوحة. الظروف تغيرت اليوم، بل انها اصبحت مواتية للقفز المباشر والاستيلاء على السلطة. هذا هو جوهر سياسة الفراغ التي يريد فرضها عبر رفضه لحكومة تكنوقراط محايدة.
في المقابل فإن السنية السياسية امام مأزق عميق، حليفها السعودي فقد القدرة على المناورة بعد الاتفاق الامريكي الايراني، وجمهورها خائف من سورنة لبنان، ومن مواجهة مفتوحة. لكنها لا تملك اليوم سوى سلاح الشرعية الدستورية، اي سلاح منع شرعنة الاستيلاء على السلطة.
بالطبع يستطيع حزب الله وحلفاؤه الاستيلاء على السلطة بالقوة، لأن جيش الحزب اقوى من الجميع، لكن هذا الاستيلاء سوف يأخذ لبنان الى ما يشبه العرقنة، والى واقع لا يعترف به احد في العالم. كما يستطيع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف اصدار مراسيم تشكيل الحكومة المحايدة، لكنهما لا يستطيعان تأمين قدرتها على الحكم، وضمان وصولها الى المجلس النيابي كي تنال الثقة او تسقط فتتحول الى حكومة تصريف اعمال.
كيف الخروج من المأزق؟
في تاريخ لبنان، وهو تاريخ بدأ بالحرب الأهلية في القرن التاسع عشر التي استمرت في التناسخ، فإن جميع التسويات كانت خارجية، من المتصرفية الى الميثاق الوطني الى 1958 الى الطائف الى الدوحة.
فالطوائف لا تكون الا بوصفها تابعة للخارج، وحين لا يكون هناك خارج يهتم بها ويستخدمها تضمر وتتلاشى. هذا هو حال الطائفتين اللتين اسستا المتصرفية عام 1860، اي الموارنة والدروز، انهما الآن مهمشتان ويتيمتان بعدما فقدتا الدعم الخارجي. لذا يدور الصراع اليوم بين السنية السياسية والشيعية السياسية المستندتين الى دعم اقليمي في سياق الحرب الأقليمية شبه المعلنة.
لا تسوية خارجية في الأفق.
اما الأفق الذي تبشرنا به الطوائف فهو الخراب.
الا اذا حصلت اعجوبة، واستفاق المجتمع المدني من غيبوبته، وخرج من عباءات الطوائف كي يبني وطنا!
هل نستطيع صناعة هذه الأعجوبة؟ ام علينا ان نعبر وادي الموت كله، قبل ان نستفيق؟