مرايا الإجماع اللبنانيّ المتكسرة – بشير هلال
في الوقت الذي كان السفير الأميركي يجول على المسؤولين اللبنانيين لإبلاغهم دعم الولايات المتحدة «الجيش اللبناني الذي يخوض مواجهة قاسية ضد المجموعات الإرهابية في عرسال»، وكان وزير العدل أشرف ريفي يطالبه بدعم الجيش والقوى الأمنية لتضبط الحدود وتمنع «مرور السلاح والمسلحين غير الشرعيين في الاتجاهين»، كان «أهالي» اللبوة وأمام ناظري الجيش ينجحون لمدة يوم كامل في قطع الطريق على الإمدادات الغذائية لأهل عرسال والنازحين السوريين.
قُبيل ذلك تعرَّض وفد «هيئة علماء المسلمين» التي اطلقت وساطة التهدئة لشتائم وإهانات وتهديدات «عناصر حزبية» في البلدة المحسوبة على «حزب الله»، وفق امين سرها الشيخ ابراهيم بيضون. فكما لو أن الحزب الذي تعود الوقوف وراء أعمال «الأهالي» جنوباً وضاحيةً وبقاعاً في كل مرة يتحرَّج فيها من التصرف العلني، أراد بذلك وضع شروطه الخاصة على الهدنة والحل.
والحال أن الحزب الذي أعلن بلسان رئيس «مجلس الشورى» الشيخ محمد يزبك أنه «لن يترك الجيش وحده»، عاد مُحرَجاً فأصدر بياناً تالياً يؤكد أن «ما يجري ميدانياً من معالجة للوضع العسكري وحماية الأهالي والتصدي لجماعات المسلحين الإرهابيين هو حصراً من مسؤولية الجيش اللبناني»، وأن الحزب «لم يتدخل في مجريات ما حصل ويحصل».
لكن نظرة واحدة إلى موقع «العهد» الناطق باسمه تكفي لتبين عدم رضاه عن الهدنة وعن المفاوضات التي أجرتها «هيئة علماء المسلمين»، متذرعاً بالتحذيرات «من فخ هذه الهدنة والمفاوضات مع الجماعات الإرهابية». وهو موقفٌ رددته «الأخبار» والوسائل الإعلامية الأخرى القريبة من الحزب.
ليس موقف الحزب مفاجئاً. فهو لم يكن يبحث، بصرف النظر عن مواقف الجيش والحكومة ومكوناتها، عن انتصارٍ للدولة كدولة على الارهاب الداعشي. كما أنه لم يكن يوماً، قبْل الحوار الايراني- الأميركي وبروز المعارضة الواسعة للنظامين السوري والعراقي، يستسيغ مفهوم الإرهاب «الغربي» ورديفه المشرقي «الاستقرار». فعبر معركة عرسال التي طلبها منذ أشهر طويلة، مثلما طلب قبلها معركة صيدا ويطلب الآن معركتيْ طرابلس وعكار، وقد توفَّرت من خلال الفرصة التي فتحها اعتداء «داعش» على أهاليها والقوى الأمنية، كان الحزب يبحث عن انتصارٍ ساحق بسلاحِ شرعيةٍ تُقاد إلى تغطية تدخله السوري دونما استنكار لسلاحه الخاص ودوره ولتدخله. وهو انتصارٌ له من وجهة نظره هدفان اساسيان:
الأول على خصومه اللبنانيين الذين يُعاملهم ضمن مروحة تصنّفهم بين خصومٍ مذهبيين ثانويين يُكتفى باستيعابهم بعد تهديدهم وتهديد «احتكارهم»، وبين خصومٍ ليس باستطاعتهم التحول إلى أعداءٍ أساسيين بسبب محدودية وانقسام طوائفهم في الميزان الطائفي العام، وليس باستطاعته إلغاءهم لأسبابٍ تتعلق بتحالفاته وبالاهتمام العالمي بمصائرهم وبتأثيث معركته المستجدة للهيمنة باسم المعركة ضد «التكفيريين»، وبين «العدو» الأساسي المنافس والمتمثل بتيار»المستقبل» وزعامته الحريرية الذي «ينبغي» تشتيته وإرغامه على ترك خطابه السياسي وتبني مضمون خطاب الحزب نفسه. وهذا ما يجعله يستخدم معه حتى في حالات التوافق العملي، كما في تأليف الحكومة السلامية ومعركة عرسال، رسائل الضغط المتواصل عبر اتهامه بازدواج اللغة وبتغطية «متطرفيه» وأصوليي السنّة عموماً، متناسياً ما خلقه بذاته وساعد على خلقه بالتعاون مع النظام الأسدي من مجموعات سنّية أصولية ومسلحة في غالب الأحيان، فضلاً عن دعم كل الزعامات المنافسة أياً يكن وزنها.
الثاني، على الانتفاضة السورية ضد نظام الأسد جوهرياً، وعلى ما أنتجه الحزب من أعداء سوريين خلال تدخله العسكري، خصوصاً في المناطق التي تولى مع جيش الأسد «استعادتها» من وضعية المناطق غير الخاضعة للنظام والحُرَّة لولا براميل الأسد وصواريخه واحتلال «داعش» و «النصرة» جزءاً مهماً منها.
لذلك، يريد «حزب الله» من معركة عرسال تحقيق نجاح استراتيجي وعسكري في منطقة فائقة الأهمية لنفوذه الجغرافي والديموغرافي في كل الاحتمالات المستقبلية، وما زالت تكبّده وتكبّد النظام السوري خسائر يومية وتسفِّه ادعاءهما أنهما قضيا على المعارضة السورية فيها كجزء من ادعائهما العام نهاية الثورة وأن الحل هو بالمصالحات المحلية وإنهاء فكرة «جنيف 1» وهيئة الحكم الانتقالية وشرعنة الانتخاب الدموي للأسد لولاية جديدة. وليس أدلّ على ذلك من السيناريو الذي رُوِّج له والقائم على «توسُّط» الحزب لإعادة سوريي عرسال وتصعيد الحرب على «المسلحين» لوضعهم امام خيار الاستسلام او الموت.
ذلك ما يجعل صورة «الإجماع» اللبناني على المعركة الضرورية ضد الإرهاب الداعشي مجتزأة واختزالية وخادعة. وعدا انشغال بعضهم من أصدقائه بتحويلها إلى حملات عنصرية ضد النازحين السوريين او مديح العنف والعسكر، فإن الحزب الذي كان يريد تصعيد معركة عرسال حتى «خواتيمها» لم يدخل بعد دائرة البحث الجدي عن إجماعات وطنية… وإلاَّ لما اتهم بالتواطؤ مع «داعش» والتكفيريين كل من ذكّره بمسؤوليته حتى الجزئية في استدراج التنظيم الإرهابي ونظرائه الى لبنان بفعل توغله في سورية، ورفضه من دون نقاش كل عرض بإغلاق الحدود في الإتجاهين، سواء عبر تطبيق القرار 1701 كما اقترحت «الخطة الإنقاذية» لـ «14 آذار» أو بأية وسيلة أخرى.
من هنا فإن كل مظاهر الإجماع المذكور غير قادرة على تشكيل لحظة إعادة تأسيس لـ «كتلة استقرار» و «وسطية» كما قد يرغب- ولأسبابٍ متفاوتة- سياسيون من داخل «النظام الطائفي اللبناني» كالحريري وجنبلاط وبري والرئيس المنتهية ولايته ميشال سليمان وآخرين. وما زال من الوهم الظن بإمكانية استدراج الحزب اليها كشريك إلزامي وكشرطٍ مسبق لنجاحها، نظراً الى احتكاره العملي حق القرار في أحد طرفي التوتر السني- الشيعي. فهو ما زال جزءاً عضوياً من المحور المُهيكِل للانقلاب على «الاستقرار» العربي الرسمي السابق، ويقوده مركزٌ خميني يتوخى انقلاباً كاملاً لمصلحته في نسبة القوى الإقليمية ومآلات التاريخ الإسلامي. ومن دون تفكيك عناصر هذه الانقلابية وانقضاء قنوات وجودها وفعاليتها الأقرب، كالنظام الأسدي، أو عزلها عنها وتراجع شعبيتها، سيصعب دخول الحزب في «النظام»، كما ستبقى «كتلة الإستقرار والوسطية» المنشودة مجرَّد التباس سياسي قابل للاستعمال في استبعاد الحرب الأهلية الساخنة، من دون أن يكون قادراً على منع عرسالات جديدة، ومراكمة التوتير والاستقطاب المذهبي والعنصرية ومآسي المدنيين اللبنانيين والسوريين.