من تشرشل إلى الأسد: تدريب البرابرة – صبحي حديدي
لآن وقد أخذ النظام السوري يتلكأ في تطبيق الجدول الزمني لتدمير ترسانته من الاسلحة الكيميائية، عادت تتعالى تلك الأصوات التي تحثّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما على اتخاذ ‘موقف مسؤول’؛ على غرار ما فعل الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، تجاه ألمانيا النازية، إثر خطابه الشهير الذي ألقاه في أيلول (سبتمبر) 1943، في هارفارد، ونطق خلاله بالعبارة الذهبية: ‘المسؤولية هي ثمن العَظَمة’. وبمعزل عن رداءة المقارنة بين الرجلَيْن، لأنّ الثاني كان شغوفاً بالحرب، والأوّل يسعى إلى الفرار من أيّ حرب؛ فإنّ وضع أوباما وتشرشل في حال من التناظر، التكاملي أو التناقضي، بصدد الأسلحة الكيميائية، يضيف الإهانة على جراح الضحايا، فضلاً عن استهانته بأبسط حقائق التاريخ.
ذلك لأنّ تشرشل كان في عداد أشهر ساسة القرن العشرين، في واحدة من أعرق النُظُم الديمــــقراطية الغربية، ممّن لم يرحبوا بتصنيع وتخزين الأسلحة الكيميائية، فحسب؛ بل اعتبر أنّ استخدامها مسألة عسكرية صرفة، لا صلة تجمعها بالأخلاق العامة. وحامل جائزة نوبل هذا، كان أوّل من أعطى الإذن باستخدام الأسلحة الكيمياية والغازات السامة، وتجريبها في العراق، تحت الذريعة الصريحة التالية: ‘الأسلحة الكيمـــــياية تمثّل تطبـــيق العلوم الغربية على الحرب الحديثة. إننا لا نستطيع تحت أيّ ظرف الضغط باتجاه منع استخدام أية أسلحة متوفرة وقادرة على إنهاء الفوضى السائدة على الحدود’. وهو الذي بشّر باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ العراقيين، عرباً (تحالف العشائر) وكرداً (حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في لواء السليمانية)، على حدّ سواء.
وكان حريصاً، بصفة خاصة، على استخدام الأسلحة الكيميائية ‘من باب التجريب’، معتبراً أنّ الاعتراضات على هذه الأسلحة ‘غير عقلانية’، مضيفاً تلك الجملة الأشهر: ‘أنا أؤيد بقوّة استخدام الغاز السامّ ضدّ القبائل غير المتمـــــدنة، وذلك لكي يدبّ الذعر في نفوسهم’. وباتت الآن معروفة تلك المذكّرة السرّية البغيضة، التي تضمنت فقرات مسهبة تبرّر استخدام غاز الخردل، وتتهكم على أصحاب المواعظ الأخلاقية المناهضة لتلك الأسلحة: ‘إنه لمن السخف اعتماد المبدأ الأخلاقي في هذه الموضوع، حين نعرف أنّ الكلّ استخدم هذه الأسلحة في الحرب الأخيرة دون كلمة شكوى من وعّاظ الكنيسة. ومن جانب آخر، كان قصف المدن المفتوحة محرّماً في الحرب الأخيرة، ولكنّ الكلّ يمارسه اليوم وكأنه أمر مألوف. إنها ببساطة مسألة موضة تتبدّل بين القصير والطويل في تنّورة المرأة’!
من جانب آخر، إذا كانت إسرائيل لن تفرغ أبداً من إغداق نعوت التبجيل على وزير الخارجية البريطاني الأسبق، اللورد آرثر جيمس بلفور، عرفاناً بالوعد الشهير الذي قطعه للبارون روتشيلد، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917، حول إقامة دولة قومية لليهود في فلسطين؛ فإنّ الحال هذه إنما تُلحق الغبن بشخص تشرشل، دون سواه. ففي مجلد ضخم بعنوان ‘تشرشل واليهود’، يمتدّ على ثمانية أجزاء، يساجل المؤرّخ البريطاني مارتن جلبرت بأنه إذا كان اللورد بلفور هو قاطع الوعد، فإنّ السير ونستون هو أوّل مَن شرع في الوفاء به، بل هو أبرز الساهرين على حسن تنفيذه. إنّ تعاطفه مع الحركة الصهيونية، وليس مع الدولة اليهودية وحدها، ظلّ قوياً راسخاً غير مشروط، يكتب جلبرت؛ رغم كلّ الأعاصير التي هبّت على علاقات التاج البريطاني مع المنظمات الصهيونية، سيّما الإرهابية بينها، وذلك منذ سنّ اليفاعة حين صدمت تشرشل موجات العداء للسامية قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس تحديداً، وحتى اجتماعه مع دافيد بن غوريون سنة 1960.
زيارته الأولى إلى فلسطين، سنة 1922، صحبة المفوّض السامي هربرت صمويل وتوماس إدوارد لورنس (أو ‘لورنس العرب’، في اللقب الشائع)؛ أنعشت آمال اليهود، بقدر ما خيّبت آمال العرب. كيف لا وقد اعتبر أنّ معارضة العرب للهجرات اليهودية إلى فلسطين تنمّ عن موقف عنصري، أوّلاً؛ كما تتناقض، ثانياً، مع حقيقة أنّ هؤلاء المهاجرين جلبوا إلى فلسطين الرخاء والرفاه والنموّ الاقتصادي. وفي السنة ذاتها كان الكتاب الأبيض الذي وضعه تشرشل قد أقرّ معدلاً للهجرة غير مسبوق، سمح بقدوم واستيطان قرابة 300 ألف يهودي في فلسطين، كما ثبّت مبدأ الهجرة اليهودية بوصفها مسألة ‘حقّ تاريخي’ وليس مجرّد مثوبة على معاناة اليهود.
وهكذا، إذْ يلفت كتاب جلبرت الجديد أنظار صهاينة العالم إلى ضرورة إحقاق حقّ تشرشل بوصفه أحد بناة دولة إسرائيل، ممّن كانت نياط قلوبهم تتقطّع حزناً على عذابات اليهودي في غمرة تعطّشها إلى سفك الدم غير المتمدّن؛ وإذْ تسقط كلّ المقارنات، السخيفة والركيكة والمهينة، بين أوباما وتشرشل في الملفّ السوري؛ فإنّ الوقائع الأخرى، البيّنة بقدر ما هي رهيبة العواقب، هي الفيصل: سياسةالغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، تجاه مجازر الغوطة الكيميائية؛ والتغاضي عن أسلحة التدمير البدائية (من طراز البراميل المتفجرة التي كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قد انتبه، مؤخراً فقط، إلى أنها ‘بربرية’!)، التي يستخدمها النظام السوري لارتكاب المزيد من المذابح الجماعية. وهذا سجلّ يعيد تنبيهنا إلى ما عرفناه في الماضي، ونعرفه اليوم أيضاً: أنّ البرابرة الكبار، على نقيض ممّا يجري في قصيدة قسطنطين كافافي الشهيرة، أتوا إلينا منالغرب، أوّلاً؛ ومنهم تعلّم برابرتنا المحليون الصغار، وبهم اقتدوا!