ممدوح عدوان: يألفونك فانفر! -صبحي حديدي
ممدوح عدوان: يألفونك فانفر! -صبحي حديدي
في التاسع عشر من هذا الشهر، ولكن قبل عقد من الزمان، رحل ممدوح عدوان (1941ـ2004)، الشاعر والمسرحي والروائي والمترجم السوري الكبير؛ والمثقف الرفيع الذي كان أقرب إلى مؤسسة جامعة، شاملة متعددة الأغراض والإنجازات، في فرد واحد؛ والشخصية العامة، المشارك في الحياة السياسية والاجتماعية من موقع الناقد الحصيف والجسور، المنطلق من مبادئ معارِضة، تقدمية وعلمانية. وساعة رحيله تساءلت، كما أفعل اليوم، في ذكرى غيابه العاشرة: هل من الممكن تخيّل المشهد الأدبي السوري المعاصر، بدون هذا الرجل؟؟
غاب شعره، بادئ ذي بدء، وافتقرنا إلى الجديد المدهش الذي كانت تحمله قصيدة اتصفت بخصوصيات كثيرة منفردة، في المضمون والشكل والتجريب الطليعي، منذ «الظل الأخضر»، 1967؛ و «تلويحة الأيدي المتعبة»، 1969؛ و «الدماء تدقّ النوافذ»، 1974؛ وحتى «وعليك تتكئ الحياة»، 1999؛ و «كتابة الموت»، 2000- ؛ و «حياة متناثرة»، 2004. انتمى، من حيث الجيل والحساسية الجمالية والتعبيرية، إلى مجموعة ضمّت أمثال علي الجندي (رغم أنه كان أكبر سنّاً، وأسبق تجربة)، وعلي كنعان، ومحمد عمران، وفايز خضور؛ بالإضافة إلى الشاعر الفلسطيني فواز عيد، المقيم في سوريا. لكنّ عدوان كان صانع مناخات رعوية، صاخبة ومتمردة وانتهاكية؛ وصائغ قاموس شعري حارّ، دائم التفجر في مستويات الدلالة والتركيب؛ ونابش إحالات تاريخية وأسطورية وتراثية، حمّالة ترميزات راهنة في الواقع، وإسقاطات طليقة في الزمان، ابتداءً من وحشي والخنساء والحطيئة والزنج، وليس انتهاءً بدون كيشوت وغيفارا و… توم وجيري!
وغابت، كذلك، مساهماته الدرامية المتميزة، في المسرح أساساً، ولكن في المسلسل التلفزيوني أيضاً؛ خاصة وأنه شاطر الراحل الكبير الثاني، سعد الله ونوس، عبء الارتقاء بالمسرح السوري المعاصر، وإطلاق ما يشبه ورشة عمل تجريبية افتراضية، بالغة الطموح، عالية الوعي بما هو ممكن ومطلوب وحيوي. هنا، في صيغة عمل جماعي، طُرحت الأسئلة الضرورية والجوهرية وغير المألوفة، من جهة؛ ومورس التطوير في كتابة النصوص، وتنفيذ العروض، وتأصيل التنظير النقدي وتحريضه، من جهة ثانية. وتلك المغامرة الإبداعية، الثقافية والسياسية كذلك، لم تكن ممكنة من دون ونوس في «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و «الفيل يا ملك الزمان»؛ ولا ممكنة، أيضاً، من دون عدوان في «محاكمة الرجل الذي لم يحارب» و «ليل العبيد» و «كيف تركت السيف».
وفي مستوى الوظيفة الاجتماعية والمعرفية والسياسية للإنتاج الثقافي، غاب عن القارئ العربي ذلك الاتصال الثرّ، المنتقَى بميزان الذهب، مع التراث الإنساني القديم والحديث والمعاصر، عبر تلك الترجمات النوعية التي أنجزها عدوان: «تقرير إلى غريكو»، السيرة الذاتية والفكرية للروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكيس؛ أو سفر «الإلياذة»، في مغامرة ترجمة عن الإنكليزية، لعلها الأهمّ بعد ترجمة أمين سلامة عن اليونانية؛ أو ذُرى هيرمان هيسه، «الرحلة إلى الشرق»، و «سيد هارتا» و «دميان»؛ أو أوديسة الشاعر الكاريبي ديريك ولكوت، «عودة أوليس»؛ أو مقالات أوكتافيو باث، «الشعر ونهايات القرن»؛ أو دراسة كيث وايتلام الشجاعة، «تلفيق إسرائيل التوراتية»…
وكان عقد من متغيرات سوريا، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كفيل بإغواء الراحل كي يكتب عملاً ثانياً يصبح توأم كتابه الأثير «حَيْوَنة الإنسان»، 2003؛ وهو مجموعة مقالات حول مقدار ما فقد البشر من كرامة وتضامن إنساني وإحساس بعذابات الآخر، حتى صاروا معتادين على الإذلال المحيط بهم وبغيرهم، وصاروا أكثر استعداداً لقبول التعذيب والمهانة والعنف على شاشات التلفزة وبالنقل الحيّ المباشر. مقالات ساخنة، تنبض بالسخط والاحتجاج والأسى، تسير بعض عناوينها هكذا: «ورطة الإنسان الأعزل»، «هل نحن جلادون؟»، صناعة الوحش… صناعة الإنسان»، «ولادة الوحش… بين الجلاد والضحية»، «القامع والمقموع»، «أصل العنف»، «الدولة القمعية». وثمة فصل بعنوان «السلبطة السلطوية»، يكتسب اليوم دلالات بالغة الخصوصية في ضوء الانتفاضات العربية، لأنه ببساطة يناقش شخصية «البلطجي» و «الشبّيح»، وأدوار كلّ منهما في تحريك آلة القمع، ويرسم لكلّ منهما قسمات مفصّلة تجعل المقالة معاصرة تماماً، تكاد تصف بدقّة عالية ما فعله «البلطجية» في مصر، وما فعله ويفعله «الشبيحة» في سوريا.
وفي قصيدته «العياذ بالجرح»، من مجموعة «يألفونك فانفر»، 1977، يقول عدوان: «قلْ أعوذ من الكلمات التي علّموني/ صوتك الآن أعمى/ يجرّ خطاه/ ويحمل تنهيدةً/ يألفونك برقاً يُعلّب/ ضوءاً يُقدّد/ نسراً يُدجّن حتى يؤاكل فأراً/ يأسرونك بالصبر/ كي يستبدّ بك الخوف/ فانفرْ». والراحل يُفتقد اليوم، حقاً، في شخصه كما في شخصيته الثقافية، لأنه كان أحد كبار النافرين ضدّ ألفة الاستبداد والفساد.