آفاق الانتفاضة السورية – موريس عايق

Article  •  Publié sur Souria Houria le 6 décembre 2011

لا يمكن المتمعن في متابعة المناطق المشتعلة في سوريا، إلا أن يلاحظ، من الخلفية الاجتماعية للانتفاضة، بكونها انتفاضة مهمشين ومتضررين من السياسات الاقتصادية التي تسارعت في العقد الأخير

وليس عديم المغزى أن يكون رامي مخلوف هو المستهدف الأول للشعارات التي ارتفعت بداية، باعتباره رمزاً للتحوّلات الاقتصادية، وبزوغ نخبة رجال الأعمال الجدد

غير أنّ المحتوى الطبقي للانتفاضة لم يترجم إلى شعارات طبقية أو اجتماعية، فاقتصر الحراك على شعارات سياسية استوحتها من الثورة العربية في مصر وتونس، مثل «الشعب يريد إسقاط النظام» أو شعارات خاصة، «سوريا بدها حرية»، لتعبّر عن ضيق ذرع الشارع السوري باحتكار حزب البعث للحياة السياسية، طوال نصف قرن، واختزال الوطنية في الولاء للنظام، المختزل هو نفسه في شخص الرئيس

لم تر الانتفاضة في نفسها احتجاجاً طبقياً، بل انتفاضة حرية وكرامة. غير أنّ الطابع الاجتماعي وحتى التحرري للانتفاضة يمكن تلمسّه في الخطاب الشعبي لمؤيدي النظام، وما يتداولونه من نظرة طبقية متعالية على المنتفضين، باعتبارهم جهلة وفقراء. حتى إنّ بعض مقاطع الفيديو المسربة لعمليات القمع التي مارستها قوى الأمن السورية، أظهرت جنوداً ينهالون بالضرب على مدنيين وهم يصيحون بهم «بدكم حرية؟». الشبيحة والخطاب الشعبي لمؤيدي النظام يصوران بأفضل ما يمكن الطبيعة الاجتماعية والتحررية للانتفاضة، انتفاضة خبز وحرية

مأزق الانتفاضة

رغم أنّ الانتفاضة مشروع للتحرر من نظام مستبد وسياسات مجحفة اجتماعياً واقتصادياً، إلا أنّها فشلت حتى الآن في توسيع قاعدتها الاجتماعية لتحقق مشاركة أوسع للطبقات الوسطى المدينية وأبناء الأقليات المذهبية، ما عرقل إمكان تطوّرها إلى انتفاضة شعبية عامة

بغياب نخبة سياسية مهيمنة في الشارع، بدت الانتفاضة عاجزة عن تحويل السياسات الاقتصادية للنظام إلى نقاط نزاع سياسية معه، يمكنها أن تسهم في إعادة بناء «الهويات السياسية» على قضايا تخص شرائح واسعة من المجتمع السوري، تضررت جراء التطورات الأخيرة التي أصابتها، وتسهم أيضاً في مواجهة عملية «تطييف» الانتفاضة وبلورة «الهويات السياسية» على حدود طائفية كما سعى النظام بنجاح حتى الآن

فقد غاب عن الانتفاضة أي خطاب اجتماعي يتجه إلى الشباب الذين يدخلون سنوياً بعشرات الآلاف إلى سوق العمل، من دون فرصة لنيل وظيفة، أو إلى العمال والموظفين الذين تتدهور القيمة الحقيقية لأجورهم باستمرار، أو إلى الذين تضرروا جراء تعديل قوانين الإيجار والسكن وغيرها، أو الطبقات الوسطى التي تصاب في مقتل مع تدهور قطاع التعليم العام، وهو القاعدة الحقيقية لإعادة إنتاج هذه الطبقات لنفسها، لمصلحة تعليم خاص لا يقوى عليه إلا أبناء الشرائح العليا منها. بل حتى دعوات الإضراب العام وجهت إلى التجار والمهنيين عموماً، وغاب عنها الآخرون، رغم أنّ من يدفع ضريبة الدم في هذه الانتفاضة هم تحديداً فقراؤها ومهمشوها

تمثل المأزق الآخر في ابتعاد الأقليات الدينية عن المشاركة والمساهمة في الانتفاضة، في مقابل نجاح النظام في تعبئة قسم كبير منهم، للوقوف إلى جانبه، باعتباره حامياً ونصيراً للأقليات. ويعود ذلك العزوف في جزء منه إلى غياب تصوّر واضح عن ماهية «الوحدة الوطنية» عن خطاب الانتفاضة، رغم ما رفعته من شعارات وطنية عامة، مثل «واحد واحد واحد الشعب السوري واحد» (هناك شعارات طائفية، غير أنّها بقيت هامشية ومحصورة في أماكن تتشابه فيها الحدود الطائفية وحدود السلطة)

الوحدة الوطنية لدى الانتفاضة، استعارت مباشرة خطاب الوحدة الوطنية للنظام، القائم على تعايش الطوائف، لا على وحدة المواطنة، حيث لا تُقدم الهويات المذهبية (أقليات وأكثريات) كهويات سياسية. تغافلت الانتفاضة عن أنّ خطاب الوحدة الوطنية للنظام ليس أكثر من قناع تتستر وراءه سياسات هيمنة، تتوسل الطائفية كأداة سيطرة وتحكم. بناءً على ذلك، فإنّ ترجمة الشعارات ستتم بالإحالة على الخبرة المتحصلة بالتعايش مع خطاب النظام عن الوحدة باعتبارها تعايشاً

الأثر الفعلي لشعارات من نوع «العلوي أخي» و«أحنا والمسيحيين إخوة»، هو تكريس وتسييس التمايزات المذهبية مع «متخيل طائفي» ينظر إلى الطوائف الأخرى باعتبارها آخر سيئاً، يُقبل منّة وتفضلاً ضمن دائرة الأخوة. خطاب التعايش في سوريا هو مجرد كلام ظاهر للمجال العام، مقابل معنى حقيقي يجهر به في المجال الخاص

رغم تمايز العجزين (الطبقات الوسطة والأقليات المذهبية)، إلا أنّهما يرجعان إلى جذر واحد هو قصور الانتفاضة عن بلورة هويات سياسية بديلة، أو بتعبير آخر ما فشلت فيه الانتفاضة إلى الآن وهو تقديم خطاب سياسي واجتماعي يمكن القسم الأكبر من السوريين أن ينظروا لأنفسهم من خلاله، وفي الآن ذاته يتحدى علاقات السلطة القائمة حالياً، خطاب عن سوريا الجديدة

سياسات الانتفاضة

بغياب النخبة السياسية القادرة على بناء استراتيجيات سياسية قادرة على تحقيق تعبئة اجتماعية حولها، يبدو من الأجدى الحديث عن لاسياسات الانتفاضة. حتى التنسيقيات لا يمكن توصيفها باعتبارها هذه النخبة، لتنافرها الهائل في ما يصدر عنها من بيانات متفاوتة ومتنافرة، بحسب كل تنسيقية والهيئة العامة للثورة. بل إنّ الكثير من التنسيقيات لم يتجاوز دورها الجانب الإعلامي.

غير أنّه بعد فشل محاولات عديدة في إنشاء هيئة مرجعية للانتفاضة، ظهر المجلس الوطني السوري الذي يحظى بقبول واسع من طرف المنتفضين. المجلس نشأ على عجل وبغموض لم يتضح الكثير منه حتى الآن، وحظي الإسلاميون بنصيب كبير فيه، ويضاف إليهم مستقلون غير معروفين بغالبيتهم

بخلاف رئيس المجلس برهان غليون الذي يحظى بقبول واحترام كبيرين، بقي المجلس إشكالياً في شخصياته وآليات عمله والمصالح التي تتقاطع في أروقته. ففيما يشدد غليون على رفضه للتدخل الأجنبي، وتأكيده سلمية الثورة، نجد أنّ «مدير مكتب العلاقات الدولية في المجلس الوطني» رضوان زيادة، يدعو، في مقابلة تلفزيونية على قناة بردى (1)، صراحة، إلى حظر جوي ووضع سوريا تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. وحين يواجهه المذيع برفض رئيس المجلس برهان غليون للتدخل الأجنبي، يؤكد زيادة أنّ المجلس لا يمثله أحد. فإن لم يكن رئيس المجلس يمثله، فمن يمكن إذاً أن يمثل المجلس؟ وهل يحق لأي كان (وزيادة ليس أياً كان، بل هو بمثابة وزير خارجية) أن يطلب ما يشاء من الدول الأجنبية، وعندها من علينا أن نصدق منهم؟

زيادة نفسه لم يكتف بهذا فقط، بل سبق له أن تحدث في ورشة عمل أقامها مركز الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز (2)، عن أنّ تغيير النظام سيؤدي إلى إبعاد سوريا عن إيران، وضمان الاستقرار في العراق ولبنان (مستمعوه أميركيون، وهكذا يمكننا أن نفهم معنى الاستقرار المقصود)، حتى إنّه يكمل مؤكداً أنّ النظام فشل في تحقيق السلام مع إسرائيل على مدى أربعين عاماً. كل ما سبق يجعل من سوريا محطاً لاهتمام الولايات المتحدة، المطلوب تدخلها

هنا يمكن المرء أن يسأل عمّن يمثل المجلس، ومن يتحدث باسمه، وهل يتحدث بالإنكليزية غير ما يقوله بالعربية، وغيرها من الأسئلة. والأسوأ من كل هذا أن ندّعي أنّ زيادة لا يمثل المجلس، أو أنّ رئيسه لا يعلم بمثل هذه التصريحات لمسؤول مكتب العلاقات الدولية

غياب الشفافية، والغموض والتناقضات التي يحفل بها الكلام السياسي لمن ينضوي تحت مظلة المجلس الوطني تجعل منه في موقع ضعيف لأداء دور النخبة القادرة على كسب أعداد متزايدة من السوريين لصفها، ورسم استراتيجيات وطنية تحظى بقبول وإجماع عليها، بما يمكّن من تحدي النظام وهيمنته

الجيش السوري الحر، وهو الوجه العسكري المعلن للانتفاضة، يمثّل موضوعاً يستوجب الطرح بعيداً عن تصور أخلاقي تبسيطي ـــــ مع التقدير الكامل لشجاعة منشقيه ومخاطرتهم بحياتهم ـــــ وخاصة أنّه ـــــ كما يبدو ـــــ لا يقتصر على منشقي الجيش حصراً. هوية الجيش السوري الحر تثير كثيراً من التساؤلات؛ فالكتائب التي يشكلها لا تحمل عموماً أسماء شخصيات وطنية سورية، بل تحيل على مرجعية طائفية/مذهبية، فهي كتائب خالد بن الوليد والقعقاع والجراح والفاروق، وهي رموز لا تدخل في إطار الانتماء الإسلامي العام، بل تنتمي إلى تراث التناحر بين المذاهب الإسلامية. فما هي الرسالة التي يفترض أن يوصلها الجيش الحر بتلك المسميات؟ (3)

الدور الأساسي الذي قام به الجيش السوري الحر حتى الآن، هو الدفع باتجاه عسكرة الثورة وعدم الاكتفاء بالشأن الدفاعي، وهو يتحدث في كثير من بياناته عن عمليات هجومية نوعية. إنّ أثر هذه العسكرة المتزايدة للثورة في السياق السوري يتمثل في سيئتين: الأولى تكمن في تعميق جراح الانتفاضة لناحية قدرتها على الامتداد، وكسب فئات اجتماعية أكثر لصفها، وصولاً إلى الإقلال من شأن المدنيين المساهمين الآن في الانتفاضة لمصلحة المقاتلين، وما يتبعها من تعزيز أهمية العصبيات القادرة على شؤون الحماية والتعبئة والقتال، وهي بمجملها عصبيات طائفية ومذهبية. العسكرة ذات أثر معاكس للخطاب الوطني الذي تسعى الانتفاضة إلى تكريسه. السيءة الأخرى تتمثل في غياب الفائدة العملية لعمليات الجيش السوري الحر، ففيما يمارس الجيش الحر عملياته باسم حماية المدنيين من الشبيحة وقوى الأمن السورية، نرى أنّ المناطق التي تمترس فيها عانت من هجوم عسكري شرس أوقع أعداداً متزايدة من القتلى، وانتهى بهزيمة هذا الجيش الحر وخروجه منها، وتمركز قوى الأمن فيها، ما أدى لاحقاً إلى خروجها الفعلي من الانتفاضة (الرستن مثلاً)

الحرب الأهلية، بدايات لبنانية

في بداية الحرب الأهلية، رأى قسم كبير من الحركة الوطنية اللبنانية أنّه يخوض ثورة وطنية، غير أنّ ياسين الحافظ رفض وقتها هذا الوصف، مؤكداً تطور الأحداث باتجاه حرب طائفية. لذلك، إنّ الواجب الأساسي للقوى الوطنية هو إيقافها لا السير فيها. سجل الحافظ موقفاً متمايزاً بتأييده للتدخل السوري، ما أدى إلى انشقاق عموم الفرع اللبناني من حزبه، والتحاقه بالحزب الاشتراكي التقدمي. التاريخ أنصف الحافظ لاحقاً، ليس بمعنى أنّ التاريخ يسير حكماً في مسار محدد مسبقاً، بل بمعنى أنّ هناك خيارات اتُّخذت وقتها، دفعت بهذا الاتجاه الذي حذر منه الحافظ (الحزب الأهم في الحركة الوطنية اللبنانية لم يكن إلا حزباً درزياً اشتراكياً)

اليوم نشهد أمراً مشابهاً في سوريا. انتفاضة شعبية وطنية، ترافقها تعبئة وجرائم على خلفية طائفية (جب عباس/ الحولا) تذكر بأحداث حرب السنتين من الأحداث اللبنانية. لا يكفي نكران هذه الأحداث حتى تزول، أو الاكتفاء بلصقها بالنظام (ولا خلاف على أنّه المسبب الأول للطائفية)، بل يفترض أن تُواجَه بالاعتراف بحدوثها وإدانتها (بيان لجان التنسيق المحلية يمثل خطوة أولى على هذا الطريق) وتكريس خطاب وطني يدينها تحت أي مسمى وبلا لبس، ويدين مرتكبيها

الثغرة الأساسية في الانتفاضة السورية هي استبطانها لمفردات الثورة الليبية كما يقول هيثم مناع، ما يعني وجود تيارات فيها سلمت بعدم قدرتها على إنجاز تحوّل حقيقي في موازين القوى مع النظام السوري اعتماداً على قدرة الشعب السوري، ومن خلال تعميق مسيرة الانتفاضة. هذه القوى ترى أنّ التغيير ينجز فقط عبر تدخل أجنبي أو على الأقل من خلال دور كبير للخارج، وهذا ما يمكن أن يفسر الدور المتزايد للجيش السوري الحر، على حساب التظاهرات الشعبية، إضافة إلى سلوك عدد كبير من أعضاء المجلس الوطني الذين يسعون إلى الفوز باعتراف دولي على حساب طرح آليات عمل لتطوير الانتفاضة

هذه المحاكمة الضمنية في صفوف عدد متزايد من القوى المنتفضة، هي استبطان مسبق للهزيمة، وعدم إدراك للفروق بين السياقين الليبي والسوري ـــــ من دون النظر إلى السياق الإقليمي ـــــ ففي الحالة الليبية كان هناك استخدام أكبر للعنف مما يحصل في سوريا، وفي المقابل حقق الثوار الليبيون إنجازات غير متوافرة في السياق السوري. فلا مقابل سورياً للمعارك التي حصلت في بنغازي وأدت إلى سيطرة الثورة على المدينة ودحر كتيبة الفضيل بوعمر. التدخل الدولي أتى تحت تهديد حقيقي بمجزرة سيرتكبها القذافي، وفي ظل وجود قوات ثورية تسيطر على قسم من البلاد في الشرق وحتى في الغرب حيث صمدت مصراتة أشهراً في مواجهة حصار كتائب القذافي

أفق الانتفاضة السورية ليس شيئاً مقدراً مسبقاً. الانتفاضة نفسها حبلى بشتى الاحتمالات، من الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي إلى تأسيس جمهورية وطنية ديموقراطية، على أنقاض نظام وراثي واستبدادي. مسار الانتفاضة وهوية سوريا الجديدة يتعلقان أولاً، قبل أي شيء آخر، بالخيارات السياسية الحالية التي يُقدم عليها الفاعلون في انتفاضة الشعب السوري. أن نرجو الآخرين أن يقوموا بما علينا نحن القيام به بدعوى أنّنا غير قادرين على المواجهة هو خيار (وليس ضرورة) سندفع ثمنه عاجلاً أو آجلاً

الإثنين، 05 كانون أول 2011