آلة الزمن (1)… «سافَرَ قطار درعا» – أسامة محمد

Article  •  Publié sur Souria Houria le 3 octobre 2011

في البدء «كان درعا»… لا أعرف ما الذي حصل لدرس القراءة «سافر قطار درعا»… هل ما يزال حيث هو في نصوص الابتدائية، أم أن التعديل العقائدي اجتاحه ورمى به خارج السكة؟

فجأةً، سكنتني الجملة وراحت تطلق صافراتها… «دو دِسْكا دِنْ» «سافر قطار درعا».تستطيع اللغة أن تغويك فتأخذك إليها… وقد تعرِّفك على ما لم تكن تعرف

في الفيلم الشهير»دو دِسْكا دِنْ» للمندس الياباني «كوروساوا»… حي توتيائي مهمش… يَعْبُره رجل غرائبي… مطلِقاً من فمه صوت العجلات «دو دِسْكا دِنْ»، وفي الفيلم لا وجود للسكة الحديد ولا وجود للقطار. الرجل هو القطار

«دو دِسْكا دِنْ»

اللغة تغوي… أن المدن والبلدات السورية هي المحطات التي مرها قطار «درعا» منذ غادرها محمَّلاً بالأظافر والجثث… أو أن «حمص والرستن وحماه والدير وقامشلو واللاذقية»… «فرغوناتٌ» التصقت بالقاطرة، بقتلاها وأسراها

هل يتسع «القطار» لكل هذه الجثث؟ أم أنها وقوده؟

«دو دِسْكا دِنْ»

قطارٌ… محملٌ بجثث السوريين، وأسراهم، بالدبابات وبالشبيحة، بالتظاهرات والجنازات. يصفر رصاصاً («دو دسكا») ومدافع («دن»)، و «سورية بدها» («دو دسكا») و «حرية» («دن»)

من يقود من؟… القاتل أم القتيل؟

الشهادة أو النصر؟

الشهادة النصر

إن كسل المخيلة ونمطيتها يُدخلان القطار في النفق… وينتظران خروجه. تلك وسيلة بدائية في المونتاج السينمائي تجعلك تدخل العتمة وتخرج حيث تشاء، متى وأنّى تشاء… في الماضي والحاضر والمستقبل، فدخول العتمة النفق زمنٌ مؤقتٌ يخرجه الزمن الحركي منها

فهل يتحرك الزمن؟ هل ينمو؟ ما هي آليته وآلته؟ «دو د سكا دن»

درعا

من زمنٍ في الزمن السوري ولدت التظاهرات. التظاهر حقٌّ طبيعي لقول ما يريد الإنسان قوله… وبدءٌ للحرية والعدالة عبر ممارستهما، بالهتاف لهما. كان هذا «التَّكَّةَ الأولى» من زمن سوري جديد، واحتاجت إلى الإصغاء العادل لصوتها لتتك «تكة ثانية» تنجب الثالثة… فتسري آلة الزمن… وتغيِّر سوريا. وما لم يكن بديهياً وصاره، هو مواجهة اللحظة النامية برصاصةٍ سريعةٍ من زمنٍ سحيق أصابت قلب الزمن فتشظَّى… وتغيرت سوريا

لم ينشطر السوريون تلك اللحظة على أنفسهم. ولم تكن محاسبة القتلة الفاسدين لتشقهم أو تخيف الأقليات. كانت العدالة كفيلةً بخروج العدالة من لكناتها الضيقة إلى العدالة

وفي انتظار العدالة… دنست الشاشة الأمنية «درعا» بصناديق أسلحةٍ ورزمات نقود… لتقول إن الزمن ابتدأ قبل هذا الزمن، فانشطر الزمن السوري إلى زمنين في آنٍ واحد، وفيلمين دفعةً واحدة

لماذا لم يقبل النظام بالعدالة استقراراً ووحدةً وطنية؟

لم لم يقبل استبدال التصفيق الميت بالحي؟

لماذا لم يقبل النظام بالربح؟

لماذا لم يقبل بالحب؟

إن علامات الاستفهام… هي «زمن الوصل» بيني وبين سوريين لا ترضى ضمائرهم بالظلم

لكي تعرف ما الذي يجري في «حماة وحمص ودير الزور وعامودا ودمشق واللاذقية» عليك أن تعرف ما الذي جرى في درعا

في البدء… من «درعا»… تحتفظ ذاكرتي بفحوى واحدٍ من مطالب شيوخها وشبابها وأهالي قتلاها: «تقديم اعتذار علني رسمي من أهالي «درعا» على الإهانة في حقهم التي وجهها الإعلام الرسمي»

مطلبٌ يسبقه ويعقبه مطالب أخرى متعلقةٌ بفساد الأمن وفساد القضاء

وإذا بدا أن المطالب الأخرى تتطلب من النظام جراحةً في جسده… وإذا كانت جراحة الفساد تهدد الفساد فيتحد بالفساد ويمانع به عنه… لماذا لم تعتذر السلطة «لغةً» من أهالي درعا عن إهانة الإعلام الرسمي لهم؟

لأن الاعتذار اعترافٌ بوجود الآخر. والآخر يبدأ مواطَنته من هنا. والمواطَنة بداية تداول السلطة

الاعتذار تداولٌ للسلطة… ولقاءٌ مع الآخر في صياغة تقدمية للزمن

من هنا تأتي لاأخلاقية «السلطة» خارج القبول بتداولها. لا وجود للآخر خارج قدسية السلطة

الآخر هو مئات آلاف المتظاهرين وآلاف الشهداء والمعتقلين الذين لا وجود لهم

وعندما تقتلهم فإنها تقتل لا أحد… أو أحداً لا وجود له. ثمة عبثٌ جديدٌ هنا… واحتلال لكل الزمن السوري من زمن همجي يسكنه

هل يوالي الموالي هذه الأخلاق؟

هل هي عقيدته

«دو دِسْكا دِنْ»

«الناس أعداء ما جهلوا»

«علي بن أبي طالب»

لا يخاطب الإمام ملةً ولا يخص أخرى

«الجملة»… أشبه بمونولوج يقوله المرء لنفسه… ربما ليقوله المرء لنفسه. كأنها مونولوج الزمن

الجملة تختزن الزمن داخلها وتدق إلى «الحركة-المعرفة»… والزمن الكمون في الجملة نفي للعداوة تحققه المعرفة

«الناس أعداء ما جهلوا»

فإذا كان ما نجهل عدواً لأننا نجهل حقيقته

ما الذي أودى بالناس إلى درك السكوت على قتل الناس؟

هل توصي أيُّ عقيدةٍ بذلك؟

هل الآخر عدوها؟ هل موته هو موت لا أحد

هل الطوائف «فرغونات» مستقلة؟

«دو دِسْكا دِنْ»

ما هي الطوائف اليوم ومن هي؟

هل هي للإنسانية جمعاء أم أنها الإنسانية جمعاء

هل تعارض الطائفة بوصفها طائفة؟ هل توالي الطائفة بوصفها طائفة؟

هل الطائفة حقيقةٌ مادية أم افتراضية؟ هل الجماعة للفرد والفرد للجماعة؟ هل تنبضها آلة زمن واحد؟

إن مخاطبة الطائفة… وهمٌ… ينزع عن أبنائها البيولوجيين حرياتهم وخياراتهم

الذاكرة الجمعية مصطلحٌ افتراضي… فالجدل الطبيعي بين السكون وحركية المعرفة… عدد الذاكرة… فصان للحكاية المقدسة، مكانها في ذاكرة البعض ونظر آخرون إليها على أنها ثقافةٌ إنسانيةٌ وغير منزهةٍ عن الأسئلة

كل الطوائف تصلي. ولا تصلي. هل ثمة غالبية ما يأخذها الخوف… نحو اللجوء في الزمن المقدس؟… وكيف يصالح المقدس قدسيته بالسكوت عن قتل الإنسان؟ هل ثمة سعادة خفية تأتي من موت الآخر؟هل الخوف جزءٌ من المقدس أم علقٌ علق به؟

هل يلتهم الخوف العقيدة ؟

من هم ملوكها ومَنِ العبيدُ؟… ثمة عبيدٌ ينضوون للمقدس بلا أسئلة. وثمة ملوك يخصون العبيد من الأسئلة ليصنعوا منهم خدماً لدنياهم… ودنيا لفسادهم وجرائمهم

«الناس أعداء ما جهلوا»، أهي المعلومة؟ هل توصي العقيدة بـ «قناةٍ حصريةٍ»؟! إن الساهين في غفلة العصبية و «العزلة»… والذين تفرح أرواحهم لمقتل الآخر… يسقطون الآن في هاوية السؤال الأخلاقي، وإذا ما حالفهم الحظ وأفاقوا حين يرتطمون بقاعها المفروش بضحاياهم… فعليهم أن يسألوا أنفسهم عن السبب في خروجهم من الإنسانية… أهي العقيدة؟ إن السكوت –الآن- عن قتل الآخر… يحفر في عزلةٍ مظلمةٍ بلا فلسفة ولا شعر، عزلةٍ قادمةٍ من قاع العزلة، هي الهباء، ولطخةٌ سوداء في ذاكرةٍ لم تستجب لكورال الحب المكابر «واحد واحد واحد» وطلب الحماية الخجول، حماية المدنيين للمدنيين الذين تأتي هتافاتهم «الشعب السوري واحد» من الشارع المجاور، «الشارع الآخر»، قبل أن يحميهم آخرُ… ينبت للعزلة أنياب تنهش بها ذاتها، وتغلق باب العزلة على العزلة. في الطائفة شعراء وزاهدون ومتصوفون… وفاسدون وقتلة. يغسل الفاسدون فسادهم بالصلاة ويخبئون جرائمهم في العصبية. كيف يسكت الناس عن مقتل الناس؟ هل السكوت مجرد سكون؟… أم أنه صونٌ ومراكمةٌ لتاريخ العنف الداخلي… في وهم أنه عنفٌ احترازي ضد العنف. أهي الحاجة الوجودية للعنف… منذ احتاجه الإنسان للبقاء على قيد الحياة فصار البقاء على قيدها مخيفاً دونه؟ هل تحتاج الجينات لنفس الزمن سلماً معاشاً… لتصدق بقاءها دون عنف؟ هل المتظاهرون السوريون بشرٌ جدد… أبدعوا زمناً جمعياً معاشاً… هو الآمان «سلمية… سلمية»، وهو التظاهرة؟ هل اتحدت جينات السلم ( للجماعة في الفرد وللفرد في الجماعة) لحظةَ التظاهرة، فألفت ذاكرة جمعيةً جديدةً آمنةً يفوق حجمها… الحجم المزاح… لذاكرة العنف؟

«دو دِسْكا دِنْ»

الجنازة

يحق للمُوالي أن يوالي، ولا يحق له الموالاة على القتل. الجنازة اليوم ممر إجباري للفرد نحو الجماعة. وتقديسٌ للحياة في مجاز الفرد. التشييع آلة الزمن، والشبيحة آلة زمن آخر يمنع الحياة ويمنع الموت. يقتل حياة الموت في الجنازة، ويكسر قواعد الساعة. الجنازة ممر الإنسانية إلى الإنسانية بكل خلافاتها واختلافاتها… نحو واحدة الزمن والأخلاق. الجنازة خروج من الحزب الواحد. وإذا كان الخلاف على السياسة يمنع السوريين من الخروج مع إخوتهم في التظاهرة، فهل تمنع الأخلاق الخروج في الجنازة «التشاورية» فيهتف كلٌّ -ولو بقلبه- صلاتَه لروحِ وراحةِ نفسِ «أكرم جوابرة» فترتاحَ نفسه، ويسأل عن الطفل «أحمد سامي أبا زيد» المعتقل منذ البدء، مذ «كان البدء درعا»، ويغتسل «اليوم» من عنصريةٍ تُنكِر على شهداء الأحياء الفقيرة حب الحرية، حتى لا يكون السكوت على القتل موافقةً عليه؟ هل يتصالح السوري مع إنسانيته… في «جنازة تشاورية»… تقود آلة الزمن فتتلمس الوحدة الوطنية، وتخوض امتحان الشبيحة؟ وإذا صح أن الدولة هي آلة الزمن وأن مؤسساتِها عقاربُها… فهي اليوم أقرب ما تكون إلى دشمةٍ افتراضيةٍ فارغة يطلق «الشبيحة» من ثقوبها الرصاص. «دووو دِسْكا دِنْ»

سينمائي سوري

الحياة – الإثنين، 03 أكتوبر2011

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/313961#.ToluyskL3dg.facebook