أبعد من الموصل: نُذُر نهاية الحلم الأمريكي في العراق – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 13 juin 2014

لم يبالغ باتريك كوبرن، في الـ»إندبندنت» البريطانية، حين اعتبر أنّ سقوط مدينة الموصل، ثمّ زحف القوّات العسكرية المناوئة لحكومة نوري المالكي إلى ما بعد تكريت؛ هو «نهاية الحلم الأمريكي»، في العراق. وقد يضيف المرء أنّ تباشير تلك النهاية تشمل أيضاً ذلك النطاق الأوسع، الذي خطّط له «المحافظون الجدد»، وانخرط في تنفيذ خطواته الأولى فريق الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، بتنظير من أمثال إرفنغ كريستول، بول ولفوفيتز، ريشارد بيرل، وغاري شميت؛ وبمتابعة، على الأرض، في أمريكا وخارج المحيط، من أمثال ديك شيني، دونالد رمسفيلد، كوندوليزا رايس، إليوت أبرامز، ودوغلاس فايث.
خير للمرء أن ينتظر اتضاح الأمور، أكثر، وأفضل، في المشهد العراقي الراهن، وما إذا كان انتزاع مدينة مثل الموصل (ثاني مدن العراق، ومركز السنّة الأوّل)، وأخرى مثل تكريت (في قيمتها الرمزية، بوصفها مسقط رأس صدّام حسين)؛ سوف يتطوّر، بالفعل، إلى انتفاضة شعبية سنّية الطابع، تتجاوز «داعش» والعشائر والوحدات النقشبندية والضباط المنشقين. خير للمرء، أيضاً، أن يتأنى في قراءة الاحتمالات الاخرى للمشهد، كأنْ يكون المالكي هو الذي بيّت هذا الانهيار الدراماتيكي للوحدات الموالية، مما يجعله أقرب إلى انسحاب متعمد منظّم، يمكن ان يحقق للمالكي سلسلة أغراض كثيرة خبيثة.
بين هذه الأغراض، ثمة فرصة إحداث فتنة، في الموصل ومحيطها، بين مختلف الطوائف من جهة، والكرد والتركمان من جهة أخرى، وتحويل الفتنة إلى مواجهات مسلحة، تستدعي تدخّل قوّات الـ»بيشمركة» الكردية، وربما الجيش التركي، لحماية التركمان مثلاً. غرض آخر هو إطلاق يد «داعش» في المنطقة، كي تعيث فيها فساداً، وتكرر سيناريوهات مدينة الرقة السورية، فتحلل وتحرّم وتكفّر، وتزيد وطأة المخاوف الأهلية من شبح «الخلافة الإسلامية»؛ فضلاً عن تمكين هذا التنظيم من «اغتنام» أسلحة ثقيلة، يتعمد الجيش العراقي تركها في المخازن، وتتولى «داعش» نقلها إلى داخل وحداتها المقاتلة في سوريا. غرض ثالث هو مسارعة المالكي إلى استغلال الوضع، ومطالبة البرلمان العراقي بفرض قوانين الطوارىء، الأمر الذي سيتيح له سلطات استثنائية ضدّ جميع خصومه، وضدّ المجتمع بأسره.
وفي العودة إلى حلم أمريكا في العراق، كانت أولى علائم فضحه قد أتت من الأمريكي سكوت ريتر، الذي كان أشهر مفتّشي الـ»أونسكوم»، لجنة الأمم المتحدة التي كُلّفت بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ قبل أن يتقدّم باستقالة مدوية، ويصدر كتابه الثاني، «الحرب على العراق»، مفنداً ذرائع بوش الابن في تبرير شنّ الحرب. ولقد سرد ريتر الحجج المضادة التالية: 1) لا توجد رابطة بين صدام حسين و»القاعدة»؛ و2) إمكانيات العراق، الكيميائية والبيولوجية والنووية، دُمّرت في السنوات التي أعقبت حرب الخليج؛ و3) المراقبة عن طريق الأقمار الصناعية كانت، وتظلّ، قادرة على كشف أيّ مراكز جديدة لإنتاج الأسلحة؛ و4) الحصار منع العراق من الحصول على معظم، وربما جميع، المواد المكوّنة لصنع تلك الأسلحة؛ و5) تغيير النظام بالقوّة لن يجلب الديمقراطية إلى العراق؛ و6) عواقب حرب أمريكا على العراق خطيرة للغاية، على الشرق الأوسط بأسره.
لكنّ بوش كان، في المقابل، بحاجة ماسة إلى هذه المغامرة العسكرية (التي سيقول إنها كانت «نبيلة وضرورية وعادلة»)، لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته الأولى ومنحها المضمون الذي شرعت تبحث عنه، بعد مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا؛ وبالتالي صناعة ـ وليس فقط تقوية ـ حظوظه للفوز بولاية ثانية. وكان بحاجة إلى هذه الحرب لأنّ مصالح الولايات المتحدة تقتضي شنّها، لثلاثة أسباب ستراتيجية على الأقلّ: 1) تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة وحيوية، تخلّص أمريكا من مخاطر بقاء قوّاتها في دول الخليج، وما يشكّله هذا الوجود من ذريعة قوية يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ الولايات المتحدة، وتشجيع ولادة نماذج جديدة من المنظمات الإرهابية على شاكلة «القاعدة»؛ و2) السيطرة على النفط العراقي، التي تشير كلّ التقديرات إلى أنه الآن يعدّ الإحتياطي الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق على المملكة العربية السعودية ذاتها؛ و3) توطيد «درس أفغانستان» على صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية لا تُردّ ولا تُقاوم.
ولسوف يقول، ويعيد ويكرر، إنّ «العراق الحرّ ستحكمه القوانين، لا الدكتاتور. والعراق الحرّ سيكون مسالماً وليس صديقاً للإرهابيين أو تهديداً لجيرانه. والعراق الحرّ سيتخلى عن كلّ أسلحة الدمار الشامل. العراق الحرّ سيضع نفسه على طريق الديمقراطية». كولن باول، وزير خارجية بوش وسيّد الحمائم آنذاك، سوف يزيد في الطنبور نغماً: إنّ «ما نريده من العراق هو أمّة خالية من أسلحة الدمار الشامل، أمّة لها شكل تمثيلي في الحكم، تعيش بسلام مع جيرانها، لا تضطهد شعبها، وتستخدم ثروة العراق لصالح شعب العراق. أمّة لا تزال أمّة واحدة، لم تتشظّ إلى أجزاء مختلفة. ولسوف أضيف عنصراً ثانياً: مثال للمنطقة ولبقيّة أرجاء العالم. دولة مارقة ذهبت. مكان كان مصدراً للتوتر وعدم الإستقرار ولم يعد مكاناً للتوتر وعدم الإستقرار».
رمسفيلد، وزير الدفاع والقائد التنفيذي لفريق الصقور، عدّد سلسلة أهداف عامّة تسعى إليها الإدارة من وراء احتلال العراق، ثمّ اختصر الأمر في أعقاب سقوط بغداد على النحو التالي: «إعادة العراق إلى العراقيين»… ليس أقلّ! جيوشه على الأرض كانت منهمكة في إنزال أحمد الجلبي في الناصرية على حين غرّة؛ وفتح شوارع البصرة وبغداد أمام اللصوص والمشاغبين وناهبي المتاحف والبيوت والدوائر الرسمية؛ وحراسة مبنى واحد وحيد في بغداد كلّها: وزارة النفط العراقية!
في مستوى آخر، يخصّ التنظير الأعلى ذرائعية، نشر هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق و»حكيم» الدبلوماسية اليانكية، مقالة مسهبة بعنوان «دروس من أجل ستراتيجية مخرج»، اعتبر فيها أنّ «الحرب في العراق لا تخصّ الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام؛ إذْ لو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من العراق، حكومة على شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة سوف تتردّد على امتداد العالم المسلم. والقوى الراديكالية في البلدان المسلمة، أو الأقليات المسلمة في البلدان غير المسلمة، سوف تتجاسر في هجماتها على الحكومات القائمة. ولسوف تتعرّض للخطر السلامة والاستقرار الداخلي في كلّ المجتمعات الواقعة ضمن نطاق الإسلام المتحزّب»…
ولقد كُتب الكثير في وصف انقلاب السحر على الساحر الأمريكي، بينها رأي الرئيس الأمريكي الحالي، باراك أوباما: هذه الحرب، الأطول من الحربين العالميتين الأولى والثانية، والأطول من الحرب الأهلية الأمريكية، جعلت أمريكا أقلّ أماناً، وأضعفت نفوذها في العالم، وزادت من قوّة إيران، وعزّزت حركة «طالبان» وكوريا الشمالية وتنظيم «القاعدة»… ما لم يقله أوباما هو أنّ هذه هي الحال الكلاسيكية التي أخذت تنتهي إليها جميع حروب الإمبراطورية الأمريكية المعاصرة، بوصفها أسوأ مَن يستخدم الجبروت العسكري، وبالتالي أردأ مَن يتعلّم دروس التاريخ.
ومن شِيَم التاريخ أنه لا يتخلّف عن تلقين الدرس، حتى إنْ أبطأ أو تأخر، وسواء تعرّجت به الطرق أم استقامت…