أربعة شهور على الثورة: سوريا على مفترق طرق

Article  •  Publié sur Souria Houria le 16 juillet 2011

 


في منتصف هذا الشهر، يوليو/تموز، تكمل الثورة السورية شهرها الرابع؛ فما بدأ حراكًا شعبيًا محدودًا ومتفرقًا، بين مدينة وبلدة وأخرى، تحول إلى مظاهرات شعبية حاشدة تضم مئات الألوف في بعض الحالات وعشرات الألوف في معظمها. وما بدأ دعوة للإصلاح ومطالب محلية وفئوية، تحول إلى دعوة صريحة إلى إسقاط نظام الحكم والتغيير الجذري.

وكما في أغلب الدول العربية التي تشهد حراكًا ثوريًا جماهيريًا، يعود هذا التطور الكبير في مسار الثورة الشعبية السورية إلى تباطؤ النظام في الاستجابة لمطالب الشعب، وإلى العنف البالغ الذي وظّفه لإخماد الحراك الشعبي، وإلى مزاج تغييري عام يجتاح المجال العربي.

وقد شهدت الأشهر الأربعة الماضية تبلورًا متزايدًا لقدرة القوى الشعبية وقوى المعارضة السورية التقليدية على تنظيم نفسها. كما شهدت افتراقًا واضحًا في مواقف القوى الإقليمية من الثورة السورية. وإضافة إلى ذلك، شهدت تصاعدًا في المواقف الدولية، سيما الأورو-أميركية، من النظام وسياساته. فكيف يمكن تقييم الوضع الراهن للثورة السورية؟ وإلى أين يمكن أن يمضي التدافع، الدموي أحيانًا، بين القوى السياسية والشعبية، من جهة، ونظام الحكم، من جهة أخرى؟

الحراك الشعبي

تواصل القوى الشعبية السورية التعبير عن معارضتها للنظام وسياساته في أغلب المدن السورية؛ وقد أظهرت قدرة فائقة على الاستمرار. وإم كانت المدن التي تتعرض لاقتحام أمني–عسكري، كما حدث في درعا وبانياس واللاذقية وحمص وحماة، تهدأ قليلاً، إلا أنها سرعان ما تعود إلى الشارع بوتيرة أعلى من السابق. وبالرغم من أن تقرير أفادت بوصول أعداد المعتقلين إلى 15 ألف معتقل، وأن القوات العسكرية التي نشرها النظام في أنحاء سوريا، إلى جانب وحدات الأمن ومجموعات الميليشيات الموالية للنظام، بلغت عشرات الألوف من الجنود و3000 دبابة وسيارة مدرعة، فإن التظاهرات الشعبية في تصاعد، سواء على مستوى عدد المدن والبلدات، أو على مستوى الجموع المشاركة فيها.

وإضافة إلى أيام الجمعة، التي أصبحت الموعد التقليدي للتعبير الجماهيري الأكبر كل أسبوع، فإن الأمسيات السورية أخذت تشهد العديد من المظاهرات في مدن مختلفة.

والواضح أن الحراك الجماهيري السوري بات أكثر تنظيمًا، وأن ما يُعرف بالتنسيقيات المحلية هي الآن أكثر استقرارًا وقدرة على تجديد نفسها كلما تعرض بعض عناصرها للاعتقال. وتساهم مواقع الإنترنت السورية مساهمة رئيسية في تحديد جدول الفعاليات وشعاراتها؛ ولكن التنسيقيات المحلية لا يجمعها إطار واحد.

ولم يزل عنصر الضعف الرئيس في الحراك الجماهيري، العجز عن دفع مدينة حلب، ومعظم أحياء العاصمة دمشق، إلى المشاركة، بالرغم من الجهود التي بذلها النشطون السوريون خلال الشهر الماضي في مدينة حلب على وجه الخصوص. وإن كان ثمة أحياء محدودة من حلب تشهد مظاهرات أسبوعية، ولكن المدينة التجارية–الصناعية الأكبر في سوريا، ذات الميراث السياسي الكبير والدور البارز في رسم مستقبل البلاد، لم تُلقِ بثقلها بعد في فعاليات الثورة.

الأمور في دمشق تختلف قليلاً؛ ففي أحياء مثل القابون وركن الدين والميدان، والقدم والحجر الأسود، ثمة حراك جماهيري كبير بالفعل. ولكن هذا الحراك ليس كافيًا بعد لتأمين موقع احتجاجي دائم مثل ميدان التحرير في القاهرة وميدان التغيير في صنعاء. وليس ثمة شك في أن النظام يدرك عمق وحجم التحدي الجماهيري الذي يواجهه؛ وهذا ما دفعه إلى تنظيم مظاهرات موالية في دمشق ومدن أخرى، يُعتقد أن أغلب المشاركين فيها من موظفي الدولة أو أعضاء حزب البعث، وإلى تعظيم السيطرة الأمنية في دمشق وحلب.

قوى المعارضة

بدأت حركة تنظيم قوى المعارضة السورية بعقد مؤتمر أنطاليا في بداية يونيو/حزيران، الذي ضم قطاعًا واسعًا من تيارات المعارضة السورية في الخارج، ثم تلاه عقد مؤتمر آخر بمدينة بروكسل (6 يونيو/حزيران)، غلبت عليه السمة الإخوانية. وفي مطلع يوليو/تموز، تنادت شخصيات معارضة مستقلة داخل سوريا للقاء عُقِد بفندق سميراميس، ترأَّسه الأكاديمي منذر خدام وضم عددًا من المثقفين والكتاب المعارضين. وقد أفادت تقارير بأن النظام لم يسمح بعقد اللقاء قبل أن يتأكد من مشاركة عدد من الموالين له؛ ولكن اللقاء انتهى على أية حال ببيان لم يكن لصالح النظام.

وخلال أيام من عقد لقاء فندق سميراميس، قام النائب في مجلس الشعب، محمد حبش، بعقد لقاء قال: إنه يمثل الكتلة الثالثة، التي لا تتفق بالضرورة مع المعارضة أو النظام. ولكن الواضح أن لقاء حبش كان المقصود به توفير فرصة أخرى للنظام.

كما أعلن المعارض السوري القومي حسن عبد العظيم (10 يوليو/تموز) عن تشكيل الهيئة التنسيقية لقوى التغيير الديمقراطي، ضمت ممثلين عن أحزاب وشخصيات مستقلة، من داخل البلاد في الأغلب ومن خارجها أيضًا، عُرفت بتوجهها العلماني–الليبرالي.
وقد تداعت مجموعة معتبرة من 45 شخصية سورية من كافة الاتجاهات والخلفيات السياسية، أغلبها من داخل البلاد، إلى عقد مؤتمر إنقاذ وطني، منطلقة من فرضية أن سوريا تمر بمنعطف تاريخي، وأن النظام فقد بالفعل شرعية الحكم وأصبح مجرد طرف في ساحة سياسية تعج بالقوى، وأن حوار القوى جميعًا هو من سيحدد مستقبل سوريا.

دعا الموقعون على بيان مؤتمر الإنقاذ، الذي سرعان ما وجد تأييدًا من مئات آخرين، إلى عقد المؤتمر في العاصمة دمشق. ولكن المرجح، بعد أن تجاهل النظام كليًّا الاستجابة لهذا المطلب، أن يُعقد المؤتمر في مدينة إسطنبول في 16 يوليو/تموز، لاسيما بعد أن وصل الحقوقي المعارض الأبرز، هيثم المالح، الذي أُعلن عن ترؤسه المؤتمر، المدينة التركية فجأة.

يشير هذا الحراك السياسي السوري الواسع إلى حياة جديدة ضختها الثورة السورية في الساحة السياسية، بعد أن عملت سيطرة حزب البعث على الدولة والسياسة إلى تهميش وإضعاف كافة القوى السياسية السورية. ولكن تعددية الأطر التي تضم قوى المعارضة، تطرح سؤالاً مهمًا حول ما إن كان للمعارضة أن تتفق في النهاية على الحديث بصوت واحد، أو ما إن كان واحد من تجمعات المعارضة المتعددة سيبرز في النهاية باعتباره التيار الرئيس، أو ما إن كان تعدد قوى المعارضة سيفسح مجالاً للنظام لاحتواء بعض من أجنحتها.

النظام

ما إن مرت لحظة المفاجأة الأولى، وما أن أدركت قيادة النظام أنها تواجه حراكًا شعبيًا يصعب السيطرة عليه، حتى طورت إستراتيجية عمل من مقاربتين: ترتكز الأولى على استمرار عمليات القمع الأمني-العسكري في كافة أنحاء البلاد، سيما المدن والمناطق التي تشهد الحراك الجماهيري الأشد؛ والثانية على الإعلان عن خطوات إصلاح قانوني ودستوري، تنفذ على مدى شهور، وبدون جدول زمني ملزم. هذه الازدواجية في سياسة النظام كانت أحد أهم أسباب فقدان الثقة الكبير الذي بات يحيط بالعلاقة بين النظام والشعب، من جانب، والنظام وأغلب قوى المعارضة السياسية وشخصياتها المستقلة، من جانب آخر.

مقاربة القمع الأمني لم تُجدِ نفعًا حتى الآن، سوى في محاصرة التحركات الشعبية في حلب وعدد من أحياء دمشق. وقد أصبح شرط إيقاف حملات القمع وإطلاق المعتقلين أحد أبرز شروط قوى المعارضة للانخراط في حوار مع النظام حول مستقبل البلاد، وأخذ مقاربته للإصلاح مأخذ الجد. ولكن النظام لم يكترث لهذه المطالب، وتصرف منذ البداية وكأن مسار الإصلاح الذي يقوده مستقل كلية عن مناخ القمع، وعن موقف قوى المعارضة والجماهير المنخرطة في التحركات الشعبية.

بدأ النظام -كما هو معروف- بإلغاء قانون الطواريء، وتشريع قانون للتظاهر السلمي، ولكن كلا القانونين لم يترك أثرًا ملموسًا على المقاربة الأمنية-العسكرية. أما حجر الزاوية في مقاربة الإصلاح فكان الإعلان عن عقد مؤتمر حوار وطني، شكّلت له هيئة إعداد خاصة، برئاسة نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع. وقد دعت الهيئة لعقد لقاء تشاوري أولي، استمر من 10-12 يوليو/تموز، والتحق به زهاء 180 من الشخصيات المستقلة والحزبية. ولكن، بخلاف واحد أو اثنين من المشاركين، غلب على المؤتمر طابع الولاء للنظام أو الاهتمام بإصلاحات جزئية. وقد أعلنت كافة أطياف المعارضة تقريبًا وكل اللجان التنسيقية للثورة مقاطعتها للقاء ورفض الحوار في ظل المناخ الحالي المسيطر على البلاد.

انتهى اللقاء التشاوري بصدور بيان لم يترك أثرًا ملموسًا على الحراك الشعبي وقوى المعارضة، ضم مجموعة من المباديء العامة التي تتعلق بالحريات وسيادة القانون وضرورة الحفاظ على الاستقرار وهيبة الدولة. كما أكد على ضرورة أن يتناول المؤتمر المنشود للحوار الوطني وضع دستور جديد للبلاد، وسن قوانين تنظم الإعلام والتعددية السياسية.

ما يتركه موقف النظام من انطباع حتى الآن أن مقاربة الإصلاح التي يتبناها ليست جادة ومقنعة، وأن ما قُرِّر منها لم يغير شيئًا في الطبيعة الأمنية للحكم، وأن التباطؤ الملموس في خطواتها يُقصد به كسب الوقت لا أكثر، سواء لتوفير فرصة كافية للأجهزة الأمنية لاحتواء الحراك الشعبي، أو لتخفيف الضغوط الإقليمية والدولية على النظام.

بيد أن النظام يواجه تحديات أخرى قد تكون أبلغ أثرًا على المدى البعيد في إضعافه. أولى هذه التحديات، أن استمرار الحراك الجماهيري يوقع إنهاكًا ملموسًا بالقوى الأمنية والعسكرية الموالية، التي أخذت تشهد انشقاق أعداد متزايدة من الضباط والجنود. الثاني: أن مقدرات البلاد المالية والاقتصادية هي أصلاً ضعيفة، وأن الشلل شبه الكامل في النشاطات الاقتصادية والصناعية والسياحية يجعلها أكثر ضعفًا. ويُتوقع أن تصل الأوضاع المالية-الاقتصادية إلى حافة الخطر قبل نهاية العام الحالي إن استمرت وتيرة الحراك الجماهيري على ما هي عليه، وأخفق النظام في الحصول على مساعدات ملموسة من الخارج. أما إن التحقت حلب، ودمشق بكليتها، بعجلة الثورة، فستبدأ ملامح الانهيار الاقتصادي في الظهور قبل ذلك.

المواقف الإقليمية والدولية

لم تزل خارطة المواقف الإقليمية بدون تغيير يُذكر منذ الأسابيع الأولى للثورة: فلم تزل إيران وحلفاؤها في الإقليم -سيما حزب الله في لبنان والقوى السياسية الشيعية في العراق- تقف بصورة واضحة إلى جانب النظام، وتؤكد على مصداقية نواياه الإصلاحية. وتتزايد التقارير التي تفيد بوجود دعم إيراني لوجستي وقيادي للجهود السورية الأمنية والعسكرية المستهدفة قمع الانتفاضة وإخمادها. بل إن تقارير أخرى تفيد بوجود دعم إيراني لنظام القذافي يستهدف إطالة أمد الأزمة الليبية، لمنع الاستفراد الدولي بنظام الرئيس الأسد.

كما أن النظام السوري يجد تعاطفًا في الأوساط العربية القومية التقليدية، وإن كانت هذه الأخيرة محدودة الحجم والتأثير في الشارع العربي؛ فأغلبية الشارع العربي في الحقيقة تقف إلى جانب الحراك الشعبي السوري وترى فيه امتدادًا لحركة الثورة العربية المستمرة منذ بداية العام.

تركيا، التي استقبلت عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين الفارين من بطش أجهزة النظام، لا تبدو أنها حزمت أمرها بعد. فمن ناحية، تتعاطف تركيا مع الشعب السوري ومطالبه، ومن ناحية أخرى تمارس طغوطًا متنوعة من أجل دفع الرئيس الأسد إلى تبني خطوات إصلاحية جادة. ومن الواضح أن الثقة بين دمشق وأنقرة قد تدهورت إلى حد كبير، ولكن ليس ثمة مؤشر على صحة التقارير القائلة بأن أنقرة تخطط لإقامة منطقة آمنة للاجئين على الأرض السورية، يحميها الجيش التركي؛ إذ لم يصل تدفق اللاجئين السوريين على تركيا إلى حد الأزمة الإنسانية، كما لا تأمن قيادات حكومة العدالة والتنمية رد الفعل العربي على مثل هذه الخطوة.

والمؤكد أن تطور الموقف التركي من الوضع السوري يتعلق بعدة أمور: باستمرار الحراك الجماهيري والآثار المترتبة عليه داخليًا، وبحجم التدخل الإيراني في الشأن السوري، وبحجم التفاعل الشعبي العربي، وبتطور المواقف الدولية، سواء في مجلس الأمن أو في واشنطن وموسكو.

عربيًا، تشير دلائل عديدة إلى أن الدول العربية، سيما الخليجية مثل الإمارات والسعودية، التي بنت سياستها على أساس بقاء النظام في أسابيع الثورة الأولى، باتت أقل حماسًا له الآن، وتركت بالتالي الحرية لوسائل إعلامها لمتابعة الأزمة السورية بدون قيود ملموسة؛ ففي الكويت، على وجه الخصوص، يتصاعد الدعم الشعبي للثورة السورية، سيما في الدوائر الإسلامية. والأرجح أن دول الخليج لم تصل بعد إلى تأييد إطاحة النظام، ولكنها بالتأكيد تسعى إلى تركيعه سياسيًا. في صورة عامة، وبالرغم من أن تصريحات الأمين العام الجديد للجامعة العربية، نبيل العربي، في نهاية زيارته دمشق في 13 يوليو/تموز، جاءت لصالح النظام، إلا أن أغلب العواصم العربية الرئيسية ينتابها قلق متزايد من تعمق العلاقات السورية-الإيرانية، ومن احتمال ارتهان سوريا للدعم الإيراني.

دوليًا، تصاعد الموقف الأميركي في صورة ملموسة بإعلان وزيرة الخارجية الأميركية فقدان نظام الرئيس الأسد للشرعية، وهو الموقف الذي جاء بعد أقل من أسبوعين على ترحيب إدارة أوباما بانعقاد لقاء سميراميس، واعتباره خطوة إيجابية. والواضح أن التصعيد الأميركي جاء ردًا على هجمات جموع موالية للنظام على السفارتين الأميركية والفرنسية، مباشرة بعد زيارة سفيري البلدين لمدينة حماة يوم الجمعة 8 يوليو/تموز. وقد أكَّد السفير الأميركي في دمشق، الذي يلعب دورًا رئيسًا في بلورة موقف بلاده من الأزمة السورية، بعد زيارته حماة على سلمية الحراك الشعبي، مكذبًا ادعاءات النظام بوجود عصابات مسلحة في التجمعات الشعبية. من جهة أخرى، كان الفرنسيون قد اتخذوا موقفًا أكثر حدة من النظام وسياساته منذ فترة مبكرة، وعملوا من البداية على تمرير قرار أممي لإدانته وفرض عقوبات محدودة عليه.

بيد أن من الواضح أنه مهما بلغ الموقف الغربي من تصعيد، فإن أقصى ما تستطيعه القوى الغربية هو اللجوء إلى إيقاع مزيد من العقوبات أو تصعيد الضغط الحقوقي والأخلاقي-السياسي. أوراق القوى الغربية في سوريا ذاتها محدودة إلى حد كبير؛ وربما كان لبنان، خاصرة سوريا الأضعف، الساحة الأكثر تعرضًا لممارسة ضغوط غربية ملموسة على دمشق. ولكن تشكيل حكومة لبنانية موالية لسوريا وإيران يجعل النافذة اللبنانية محدودة في الوقت الراهن.

ما يقف أمام المساعي الغربية لتمرير قرار أممي ضد النظام، لم يكن فقط تردد واشنطن قبل إعلان وزيرة الخارجية الأخير، وإنما الموقفان الروسي والصيني المعارضان لمثل هذا القرار، بالرغم من أن الصيغة المطروحة على مجلس الأمن تعتبر صيغة ضعيفة وغير كافية من وجهة نظر المعارضة السورية. وقد حاولت قوى المعارضة السورية تذليل الموقف الروسي المعارض بزيارة موسكو والالتقاء بشخصيات برلمانية روسية، بهدف إظهار حسن نية المعارضة تجاه العلاقات السورية-الروسية في المستقبل. ثمة مؤشرات على أن تغييرًا ما آخذ في التبلور في الموقف الروسي، ولكن أحدًا لا يتوقع تغييرًا كافيًا بدون عقد صفقة أميركية-روسية مسبقة.

الثورة السورية بعد أربعة شهور

خارجيًا، تشكل الأزمة السورية عقدة يصعب حلها أو التعامل معها؛ فمن ناحية، بات من المؤكد خسارة إيران وحزب الله في الشارعين العربي والسوري؛ ولكن لا إيران ولا حزب الله يمكنه التخلي عن الحليف الإستراتيجي الوحيد في المشرق. وتدرك تركيا أن سوريا تمثل الامتحان الأكبر لسياستها العربية في حقبة ما بعد الثورات الشعبية؛ وبالرغم من أن تركيا تقترب بحذر بالغ من المسألة السورية، فإن هذا الحذر قد يصبح بحد ذاته محددًا سلبيًا. وفي ضوء تدهور وضع الدولة السورية المالي-الاقتصادي، ستقف دول الخليج العربية هي الأخرى أمام امتحانها السوري؛ بمعنى أن تقرر ما إن كانت ستمد يد العون للنظام وتخسر شعبها والشعوب العربية، أو تترك أزمة النظام تتفاقم، بدون أن تطمئن تمامًا لما إن كان سيسقط في النهاية ويخلفه نظام صديق ومستقر.

أما القوى الدولية، فبالرغم من الخلافات التي تمنعها من تطوير موقف موحد، فليس من المؤكد إن كانت تمثل عاملاً فاعلاً في تحديد مستقبل الأزمة السورية، حتى إن نجحت في التوافق على صيغة قرار أممي؛ لذا لم يزل المحدد الأكبر لمستقبل سوريا هو توازن القوى بين النظام، من جهة، والحراك الشعبي وقوى المعارضة، من جهة أخرى.

والواضح أن ميزان القوى الشعبي قد مال ضد النظام بصورة كبيرة في الأشهر الأربعة الماضية، خاصة خلال الشهرين التاليين للحملة الدموية ضد مدينة درعا ومحيطها الريفي. وربما بات من الممكن القول: إن النظام لم يعد قادرًا على هزيمة أو احتواء الحراك الشعبي. مشكلة النظام الرئيسة الآن هي إقناع الشارع وقوى المعارضة بمصداقية مشروعه الإصلاحي، واستعداده لإجراء تغييرات عميقة في جسم النظام السياسي والأمني والدستوري. لتعزيز هذه المصداقية لابد من وقف العمليات الأمنية والعسكرية، ووضع نهاية لاستخدام السلاح ضد المتظاهرين. ولكن النظام يخشى أن يؤدي تراجع آلته الأمنية-العسكرية إلى تعاظم الحراك الشعبي وخروج حلب ودمشق عن سيطرته. وهنا تقع معضلة النظام الكبرى.

على المستوى الجماهيري، لم تزل حلب، بدرجة كبيرة، ودمشق، بدرجة أقل نسبيًا، تشكلان التحدي الرئيس لقدرة الحراك الشعبي وقوى المعارضة على توكيد طابع الثورة الشعبية الشاملة، وعلى تهديد أسس بقاء النظام. أما على مستوى بنية الدولة، فتواجه المعارضة تحدي بقاء المؤسستين الأمنية والعسكرية على ولائها للنظام حتى الآن، بدون أن تبرز حركات انشقاق واسعة النطاق في المؤسستين. ولم يزل على المعارضة بذل جهود أكبر لتطمين الطائفة العلوية والأقليات المسيحية بأن تغييرًا سياسيًا في سوريا لن يؤثر سلبًا على وضعهما وعلى تقاليد المواطنة السورية. أما على مستوى بنية المعارضة ذاتها؛ ففي حال أخفقت قوى المعارضة السياسية في التوافق على تحالف واسع والحديث بصوت واحد، فليس من المستبعد أن ينجح النظام في احتواء قوى وشخصيات من بينها.

ما تشير إليه هذه التعقيدات المتداخلة، في النهاية، أن مسار الثورة السورية سيكون أطول نسبيًا من مسار الثورات العربية الأخرى، حتى تلك التي استمرت شهورًا مثل ليبيا واليمن. وكلما طال أمد التدافع بين الشعب وقواه السياسية والنظام، زادت مخاطر الصراعات الأهلية والتشققات الطائفية.السبت 14/8/1432 هـ – الموافق 16/7/2011
مركز الجزيرة للدراسات

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/829703C3-5916-4B4C-97D4-D16BAC522CBF.htm?GoogleStatID=24