أعمدة  »بيريرا » يدّعي••• – سلام كواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 31 janvier 2012

في شهر آب  »أغسطس من سنة ,1938 وفي عاصمة البرتغال لشبونة الخاضعة لعسف الديكتاتور أنتونيو سالازار الذي أرسل قوات للمحاربة إلى جانب حليفه الفاشي الإسباني فرانشيسكو فرانكو ضد الجمهوريين في إسبانيا، كان هناك صحفي مخضرم اسمه  »بيريرا » غير مسيّس وذو توجه ديني ملتزم· كان يعمل محرراً لصفحة الأحداث المتفرقة، ومن ثم تسلّم مسؤولية الملحق الثقافي الأسبوعي لصحيفة محافظة واسعة الانتشار· وكان  »بيريرا » يتحاشى الخوض في نقاشات الساعة الحامية وينأى بنفسه عن اتخاذ أي موقف يعرضه للعقوبة المسلكية من رئيس تحريره اليميني والمقرّب من النظام ولا حتى للمساءلة الشفهية· زوجته متوفاة منذ زمن بعيد، وهو استمر بمخاطبتها من خلال صورتها التي تسمع له ما يجول في خاطره فعلاً، فالمحيطين به ليسوا إلا زملاء عمل أو نادل المطعم الذي تعود أن يأكل لديه، وهو المصاب بالسكري وبضعف العضلة القلبية، البيض المقلي مع الأعشاب ويشرب عصير الليمون المثلج

في وحدته ومرضه، كان جلّ انشغاله هو تأدية عمله بما يرضي رئيسه من جهة، ومتابعة شغفه بأدب القرن التاسع عشر في فرنسا من جهة أخرى، وهو موضوع يبعد عنه مسؤولية الاهتمام بالشأن العام المعيش، أو هكذا كان يظن· في عتمة الصمت والخوف اللذان يتنازعان هذا الصحفي البدين، يدخل نور شاب وشابة من المعارضين للفاشية اللذان يلجآن لبيته، وبمحض الصدفة، هرباً من أجهزة الأمن· إن عنوان رائعة الكاتب الإيطالي أنتونيو تابوشي:  »بيريرا يدّعي » يُشير إلى لقائه مع صاحب شخصية الرواية الحقيقي الذي نقل إليه سيرته ليخطها في كتاب صدر سنة 1994 الذي تحوّل إلى فيلم سنة 1996 وحاز في فرنسا على جائزة  »الكتاب المنسي » سنة .2004 فهو ينقل عنه أحداث الرواية وبالتالي فبيريرا يدّعي ما يروي أو أنها كما قال أحد النقاد إشارة إلى ما يرد في محاضر التحقيق للتنبيه إلى زمن الرواية· بيريرا هذا، وبفضل تأثير الشابين الثائرين، انتقل من حيّز المثقف الوظيفي الضيّق إلى الأفق الواسع للمثقف العضوي الذي وجد نفسه، دونما اختيار، مُساقاً باتجاه الكشف عما يعتري أعماق تفكيره من صدأ ومن خوف ومن تقيّة، ليزيح غبار العار عنه ويلفظ جبنه وانطوائه مدافعاً عن الشابين وقضيتهما رغم كل ما تعرّض له من تحقيقات وإزعاجات واستدعاء· بيريرا لا يدّعي بل هو يخلع سأمه وتأملاته حول الموت لينفتح على آخرين، سيسمحان له بأن يحقق ذاته، ويقف بجأش أمام نظام دكتاتوري مقيت ويتخلص من الرقيب الذاتي والخارجي في عمله الصحفي، وليلفظ من مكونات قلقه الجواسيس من زملائه ومن أهل الحي، وليتحدى عسس السلطة الذين ما فتئوا يخيفون ماضيه· هذا الرجل الذي كان  »ممحيّاً » يستعيد تذوق طعم الحياة· والجزء الكبير من الفضل في ذلك يعود إلى الشابين المعارضين

الكاتب الإيطالي يستعرض حياة بيريرا وتطورها وانتقاله إلى موقع المعارضة· ومن خلال متابعة سرده السلس، لا نستطيع أن نتبين بدقة متى حصل الانتقال من أقبية  »الصامتين » إلى أبراج المواجهين· المهم، أن الانتقال الجذري حصل، وأصبح بيريرا معنياً بالشابين وبالثورة وبالنضال ضد المستبد وببناء غد أكثر إشراقاً لبلده البرتغال

في الإطار العربي، أعتقد بأن هذه الرواية تستحق بأن ترسل إلى الكثير من الذين لم يستيقظوا بعد من سبات أهل الكهف، والذين لا يبدعون كتابة وتصريحاً إلا في حالات الاسترخاء والرخاء· قصة بيريرا تكاد تكون قصة عربية بامتياز، على الرغم من أن استبداد سالازار، وحتى فرانكو، لا يضاهيان استبداد الأنظمة العربية التي تستمد شرعيتها من عدمها، وتستنزف ثروات قرب نفادها، والتي تقبع على صدور شعوب حية كان لها ماضٍ عتيد ومقارعة بطولية لاستعمارات عدة ولنكسات مرتبطة دائمة بخيانات قادتها الذين لم تنتخبهم البتة· بيريرا استيقظ وقام بدور فاعل ومؤثر في حماية الشابين الثائرين، وتعرض لاضطهاد متكرر خصوصاً بعد مقتل الشاب الذي حماه في بيته إلى جانب دفء صورة زوجته المتوفاة· بيريرا استيقظ وانبرى يكتب ما يجري ولم يعد يتوقف كثيراً عند أدب القرن التاسع عشر الفرنسي بل انتبه أكثر إلى أدب جديد تخطه أقلام الثورة والثوار ضد الاستبداد والساعين نحو الحرية

وبيريرا، وكأنه أرادنا أن نستيقظ معه، نقل تجربته هذه بعد عقود إلى الكاتب الإيطالي، فكانت شهادة مؤثرة وعميقة على ما يجب أن يكون عليه دور المثقف الحقيقي· فلا شاعرٌ هرمٌ إنسانياً، أفقده السكر وذهب السلطان ملكات التفكير والإبداع، يستطيع أن يشتم من يسعى للانعتاق من عبودية الاستبداد ومن يسعى إلى إصلاح حياته وتعزيز مثقال الكرامة في بنيانها· ولا شاعرٌ تقتله الأنا الذاتية وكره الآخر وربط الديمقراطية بالإمبريالية وخلط القوارير التي لا تفضي إلا لاستنتاج فقره الذهني والأخلاقي، يستطيع أن يجد لنفسه مطرحاً في ساحة الإبداع الإنساني والأخلاقي· ولا شاعرٌ يسعى عبثاً لجائزة نوبل تتحاشاه بعزم وإصرار، لأنها لا تكافئ على ماضٍ انقضى بل على حاضرٍ لا يقدم فيه المعني إلا الرثّ من الفكر أو من شبه الفكر، وتتركه ليسعى إلى جوائز الحقد والتحفيز على الكراهية بين مكونات مجتمعات لم تصطدم ببعضها إلا بمساعي المستعمر أو المستبد

كم من بيريرا سيعود إلى رشده ويتخلى عن خوفه؟ وكم من مثقف عربي تخلى عن دوره وخاض حروباً سفسطائيةً أراد من خلالها إثبات قدرته على تنميق الكلام دون أن يكون لديه القدرة على تفعيل الكلام؟ كم من بيريرا لم ينتفع لا من جاه ولا من سلطان يعود إلى دوره العضوي وينزع عن نفسه عار الصمت والترقب؟ كم من بيريرا سينأى بنفسه عن البروز ليسعى بالمقابل إلى إبراز أفكار الحق والحرية؟ هل سيستمر بعض المثقفين العرب في لعب دور شهود الزور ليكونوا أول من سيلفظهم التاريخ الذي لا يرحم المتخاذلين؟ أسئلة برسم الغرباء والأصدقاء منهم، فالبرتغالي بيريرا استيقظ، وأنتم؟

الجزائر نيوز – الثلاثاء 31 /1/ 2012 م

http://www.djazairnews.info/trace/37-trace/34401-2012-01-30-20-58-41.html