أيّ دستور يحتاجه السوريون؟ نادر جبلي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 27 janvier 2017

أكّدت سابقًا أن اهتمام بعض الدول، وعلى رأسها روسيا، بكتابة دستور جديد لسورية، كمدخل لحل الأزمة، أطلق موجة من النشاط اللافت في هذا الشأن، تجلت بأشكال مختلفة: مؤتمرات، ورشات عمل، ومبادرات مكتوبة…إلخ، غلب على معظمها طابع التسرع، ونقص الحِرفية، بصرف النظر عن الأغراض والنيات.

يعترف الجميع باستحالة توفر شرعية وطنية في سورية، في المرحلة الانتقالية، شرعية تتيح إمكانية كتابة دستور، يتوفر على مقومات النجاح، وذلك بحكم استحالة توفر مصادر تلك الشرعية، والتي تنحصر في اثنين: إما انتصار عسكري ناجز، لطرف على آخر، يُقيم شرعية الأمر الواقع، أو إجماع شعبي كبير، يُقيم شرعية شعبية، والاحتمالان كلاهما غير واردين. ولمعالجة هذا الانسداد، يطرح بعضهم فكرة اعتماد دستور العام 1950، بعد استبعاد بعض الأحكام غير الملائمة، ويطرح بعض آخر البقاء على دستور النظام القائم، دستور 2012، مع استبعاد غير الملائم من أحكامه، ويرى آخرون أنه لا بد من دستور، يُفرض من الخارج، طالما أن السوريين غير قادرين على كتابته.

من المعروف أن الدستور وثيقة، تُكتب في لحظة تاريخية معينة، وتعبِّر عن إرادة مختلف فئات الشعب، في العيش المشترك، ورؤيتهم لطريقة إدارة بلادهم، والخروج من صراعاتهم، وتنظيم حياتهم في المستقبل. كما تُحدِّد شكل دولتهم، والمبادئ التي سيقوم عليها نظامهم السياسي، وآليات عمله…إلخ، وهو وثيقة تحاول، قدر الإمكان، تصوير آمال، وتطلعات الناس نحو المستقبل، لكنها، في الوقت نفسه، تنطلق من الواقع، والحقائق الموضوعية على الأرض، وتأخذ في الحسبان أحوال المجتمع، بكل فئاته وقواه وتلويناته، وتعكس حدة الصراع الاجتماعي والسياسي في البلد، وموازين القوى التي تتحكم بهذا الصراع، وتحاول التوفيق بينها. دون المساس بثقافة المجتمع وعاداته وأخلاقياته.

إذن، يُصمَّم الدستور؛ ليلائم البيئة الخاصة التي سيُطبق فيها، ومعطيات اللحظة التاريخية التي يُصمم فيها، وإلا فسيأتي مشوهًا عاجزًا، ومن هنا أقول: لا يمكن أن نطبق -الآن- دستورًا، كُتب في زمن آخر، وفي أوضاع مختلفة، مهما كان جيدًا وناضجًا في حينه، لأن العامل الأساسي في نجاحه، هو مدى قربه ومواءمته للواقع والأحوال، ومدى قدرته على كسب رضا الناس، وليس لحسن محتواه وجدارة كاتبيه.

من هذا المنطلق، فإن أوضاع سورية في مرحلة استثنائية، بكل معنى الكلمة، هي المرحلة الانتقالية، لا تقبل دستورًا لم يُكتب خصيصًا لها، مهما كان شأنه، ودستور 1950، ليس استثناءً من هذه القاعدة.

صحيح أن دستور 1950، علامة فارقة في تاريخ التشريع الدستوري في سورية، ويُعدّ، بمعايير زمانه، دستورًا ديمقراطيًا ناضجًا حضاريًا متقدمًا، وصحيح أنه مِن وضْع جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيًّا، وأنه يحوز ميزات إيجابية كثيرة، لكنه -بالتأكيد- لا يلائم مرحلة مقبلة، تختلف جذريًا عن المرحلة التي وُضع عنها، وتفصل بينهما مسافة زمنية مقدارها سبعون سنة، (إذا افترضنا أن المرحلة الانتقالية ستبدأ غدًا)، وهي مدة أكثر من كافية، لجعله دستورًا متقادمًا، حتى في الأحوال الطبيعية.

وفي التفاصيل، نجده -أيضًا- غير ملائم، وأسوق بعض الأمثلة؛ فهو يُضعف موقع الرئاسة، سواء بسبب طغيان صلاحيات البرلمان على صلاحيات الرئيس، أم بسبب الخلل في توزيع السلطات بين رئيس البلاد ورئيس الحكومة، ويتبنى أنموذجًا اقتصاديًا، يطغى عليه النفس الاشتراكي، حيث يعزز دور الدولة التدخلي، ويقيد حقوق الأفراد في التملك، ولا يقدم لها الحماية الكافية (يربطها بالوظيفة الاجتماعية وبالمصلحة العامة)، ويُضعف المبادرة الفردية. كما أنه يتبنى نهجًا قوميًا، ويركز على عروبة سورية وعلى الوحدة العربية، وهذه نقطة خلافية يستحيل التوافق عليها الآن، وهو يتحدث عن مؤسسات مالية (ديوان المحاسبات)، أو اقتصادية (مجلس اقتصادي) لم تعد موجودة الآن.

أما دستور عام 2012، دستور بشار الأسد، فأقول – مباشرة- إنه دستور مرفوض جملة وتفصيلًا لغير سبب؛ فهو -أولًا- صادر عن جهة غير شرعية أصلًا، مغتصِبة للسلطة. وهو -ثانيًا- جزء من نظام قامت الثورة لإسقاطه، وهو -ثالثًا- مُصمّم على مقاس فرد مستبد، يضع جميع السلطات في يده، أو تحت رحمته، ويتوِّجُه حاكمًا مطلق الصلاحيات، غير محدود القدرات، غير خاضع لأي حساب، وهو -رابعًا- يفرِّغ المبادئ الدستورية، المبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة، من مضمونها، ويجعلها نصوصًا بلا معنى، ومنها مبدأ فصل السلطات، ومنها مبدأ استقلال القضاء.

أما عن دستور يُكتب، ويُفرض من الخارج؛ فهذا ممكن طبعًا، لكنه سيكون فاقدًا للروح، غير قادر على الحياة، كنبتة غريبة، تُزرع في بيئة لا تلائمها؛ لأن العامل الرئيس في نجاح أي دستور، كما ذكرنا أعلاه، هو مستوى قبول الناس له، وإحساسهم أنه يلائمهم، ويحيط بتطلعاتهم، ويراعي تاريخهم وثقافتهم، وهذا ما لا يمكن لأحد من الخارج الإحاطة به، ومن ناحية أخرى، يمكن القول: إن كتابة الدستور من قبل أبناء الوطن، يحوز أهمية خاصة، لا تقل عن أهمية مضمون الدستور.

يعبر الفقيه الدستوري، إسماعيل مرزة، عن ذلك بالقول: “الدستور هو عبارة عن نتيجة تفاعل عوامل عديدة، متأتية من بطون تاريخ ذلك المجتمع السياسي، وعمق عاداته، وصلب أخلاقه ومزاجه، ومرآة نضجه السياسي؛ فكيف يتسنى لأجنبي أن يعبر عن كل ذلك، وهو بعيد عن تفهمه؟”

إذن، لا يمكن لدستور آخر أن يكون على مقاس المرحلة والوضع، كما لا يمكن كتابة الدستور إلا بأيد وطنية، لكن كتابة دستور، بالمواصفات المطلوبة، وبأيد وطنية، تتطلب توفر حدٍ أدنى من الأمن والهدوء والاستقرار والحرية، يتيح للجميع فرصة الانخراط والمشاركة، بعيدًا عن السلاح والتهديد والخوف والتشرد، كما يحتاج إلى وجود نُخب، وتنظيمات سياسية ومدنية وأهلية ناشطة، وهذا يستحيل توفره في بداية المرحلة الانتقالية في سورية، حيث إن نصف الشعب خارج بيوته، وثلثه خارج سورية، وحيث العدم هو سيد الموقف، عدم الأمن وعدم القانون، وعدم الطعام، وعدم العمل، وعدم المدارس، ويحتاج الأمر -بالتأكيد- إلى ثلاث سنوات على الأقل، إذا سارت الأمور على ما يرام. ولا ضير من تأخير كتابة الدستور ثلاث سنوات أو خمس سنوات، حتى تنضج الأحوال، وتتوافر الشروط الملائمة لكتابة دستور، يليق بسورية والسوريين.

أما المرحلة الانتقالية، فتتم تغطيتها دستوريًا، عبر إعلان دستوري مؤقت، يصدر عن السلطة القائمة، يتضمن الأحكام والقواعد والمبادئ، اللازمة والكافية، لتغطية مهام تلك المرحلة، وصولًا إلى إنجاز الدستور العتيد.