إتيل عدنان: الحصة السورية – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 3 février 2014

قبل أيام مُنحت إتيل عدنان، الشاعرة الكبيرة والفنانة التشكيلية، وسام الفنون والآداب الفرنسي، برتبة فارس؛ وهذا أحد أرفع الأوسمة الفرنسية في ميدانه، وسجلّ الحاصلين عليه، في مرتباته المختلفة، يضمّ أمثال: ت. إس. إليوت، خورخي لويس بورخيس، نادين غورديمر، شيموس هيني، فاكلاف هافيل؛ إلى جانب فيروز (1988)، ومحمود درويش (1993). وفي هذه المناسبة، وهذه الأزمنة تحديداً، يحلو لي ـ ويحقّ، كذلك، كما أعتقد ـ أن استذكر عدنان، لا باعتبارها الأديبة اللبنانية، كما توصف عادة؛ بل نسبة إلى محتدها السوري، إذْ من المعروف أنها وُلدت لأب سوري دمشقي مسلم، كان أيضاً ضابطاً في الجيش العثماني.
آخر تعبيرات عدنان السورية كان التوقيع، الصيف الماضي، على بيان يطالب بإطلاق سراح الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي؛ ومنذ اندلاع الانتفاضــــة، في آذار/ مارس2011، لم تتوقف عن تبيان انحيازها التامّ، والصريح، إلى حقّ الشعب السوري في الكرامة والحرّية والديمقراطية. أمّا في الموقف الإجمالي من النظام، قبل الانتفاضة، فإنّ كتابات عدنان انطوت دائماً على إدانة الطبيعة التسلطية والاستبدادية للسلطة، وشدّد في الآن ذاته على حيوية الثقافة السورية، التي ظلّت تبدع وترتقي وتقاوم في آن معاً. (يُنظر، على سبيل المثال، نصّ عدنان في مراجعة كتاب مريام كوك ‘سورية المنشقة’، مجلة ‘الجديد’، 1999).
ولعلّ العناصر السورية في شخصية عدنان لن تبدو حصيلة عجيبة، بل تحصيل حاصل إنساني وثقافي، إذا أعاد المرء قراءة شهادة لها، بعنوان ‘أن نكتب بلغة أجنبية’؛ مطوّلة ومعمّقة واعترافية، وشهيرة تماماً عند متابعي أعمال الشاعرة، تصف فيها تاريخ تجاربها الشخصية مع اللغات والمنافي. وهي تروي كيف كانت لكلّ لغة تكويناتها الوجدانية والشعورية الخاصة: اليونانية والتركية، عن طريق الأمّ المسيحية المولودة في سميرنا، أو إزمير المعاصرة؛ والفرنسية، في مدرسة خاصة تابعة لأحد الأديرة الكاثوليكية في بيروت؛ والعربية، عن طريق الأب، والأصول السورية؛ والإنكليزية، في الجامعة والمغترب الأمريكي.
آثار تلك ‘المطحنة اللغوية’، إذا جاز القول، تبدّت بجلاء في ما أنجزت عدنان بعدئذ من شعر ونثر، وعن هذا تقول ببساطة مذهلة: ‘كان الفنّ التجريدي هو معادل التعبير الشعري عندي. لم أكن بحاجة إلى استخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط. لم أكن بحاجة إلى الانتماء إلى ثقافة ذات توجّه لغوي، بل إلى شكل مفتوح في التعبير’. ولديّ، شخصياً، ما يكفي من الدلائل، البصرية والتصويرية والتعبيرية، وسواها من المصطلحات المعتمدة في قراءة اللوحة والعمل التشكيلي إجمالاً؛ لكي أصدّق ما تقوله عن شكل التعبير المفتوح ذاك، وعن لغة قصيدتها الخاصّة والمفتوحة بدورها.
ومنذ القصيدة الطويلة ‘كتاب البحر’، التي كتبتها في سنّ العشرين (هي اليوم تقارب التاسعة والثمانين، بقلب شابّ أبداً!)؛ انهمكت عدنان في تلمّس ذلك القاموس التعبيري الفريد الذي سوف نعرفها عن طريقه، وفي تطوير طاقاته التصويرية والتشكيلية بصفة خاصّة، وتأثيث عوالمه ومناخاته وموضوعاته، قصيدة بعد أخرى. وهذا العمل، المكتوب أصلاً باللغة الفرنسية، يحاول وضع العلاقات التبادلية بين البحر والشمس في إطار من التعايش الإيروسي الأكواني؛ ولكنه جوهرياً يرسم مشهداً تشكيلياً حاشداً في الأساس، ينقلب فيه لقاء البحر والشمس إلى انفجار بصري مذهل لعناصر الطبيعة المحسوسة والمتخيَّلة، للعالم المادّي والمجازي، وللمعنى الآخر الأعظم وراء انحسار الحدود بين الشيء وكناياته، والكنايات ذاتها إذّ تدخل في استعارات مفتوحة.
غير أنّ عدنان لا تستطيع الإنفكاك عن حقيقة اللغة الأمّ وحقوقها، وربما حقوق كلّ اللغات: أليس من المحزن، تقول الشاعرة، أنّ ‘كتاب البحر’ قصيدة تعزّ على الترجمة إلى اللغة العربية، لا لشيء إلا لأنّ ‘البحر’ اسم مؤنّث في الفرنسية ومذكّر في العربية، الأمر الذي ينسف البُعد الإيروسي الأهمّ في القصيدة، بل ويلغي معادلاتها الكبرى؟ هــــذه، بالطبــــع، بعض أكلاف العيش في ما نسمّيه عادة ‘منفى اللغـــــة’، الأمر الذي يقود عدنان إلى يقــــين بأنّ منفاها ‘يعود إلى حقبة سابقة بعيدة، ويمتدّ زمناً طــــال كثيراً، حتى صار طبيعــــتي الخاصــــة. الشاعر، في نهاية المطاف، طبيعة إنسانية على النحو الأصفى، ولهذا فإنّ الشاعر إنسانيّ كما القطة قطة، وشجرة الكرز شجرة كرز′.
غير أنّ حال النفي هذه هي، أيضاً، بعض السبب في أن عدنان تبدو مظلومة كلما تعيّن توزيع شهادات ‘الريادة’ على ‘الروّاد’. إنها تكتب الشعر الرفيع منذ أكثر من نصف قرن، وهي ليست غائبة عن المشهد الشعري العربي، إذْ واصلت الحضور ـ على طريقتها، بالفرنسية أوّلاً ثمّ بالإنكلـــــيزية ـ وساهـــمت في إطلاق صوت خاصّ لعلّ أثره يتخفّى طيّ العديد من التجارب العربية الناضجة المعاصرة.
وبعض عزاء عدنان يأتي من حقيقة أنّها ليست مجهولة لدى القارىء العربي، وعشرات من قصائدها تُرجمت إلى العربية، على يد شعراء وكتّاب متمرسين من أمثال سركون بولص وفايز ملص وخالد النجار وميّ مظفر وسواهم، أثّرت وما تزال في تكوين الذائقة الشعرية العربية المعاصرة.
تتعدد معاني المنفى عند عدنان، وتتنوّع مستويات النفي: في أشكال التجربة الإبداعية، وفي الترحال، وفي اللغات والهويات؛ ولهذا فإنّ في تكريمها، اليوم، حصّة سورية مستحقة، أصلية، وأصيلة أيضاً.

http://www.alquds.co.uk/?p=129651