البحث عن البديل في دمشق – ماجد الكيالي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 20 avril 2014

لا شيء يقيني في الثورات تحديداً، لأنها بمثابة انفجارات، لا يمكن التحكّم بها، أو تحديد مدياتها، أو التقرير سلفاً بتأثيراتها، سواء السلبية أو الايجابية، فهي يمكن أن تنهزم أو أن تنتصر، ويمكن أن تحقّق نجاحات جزئية أو تنحرف أو يجري التلاعب بها. هكذا، فكل شيء جائز، بحسب التجارب التي عرفتها المجتمعات البشرية، لكن ما هو أكثر يقينية، على هذا الصعيد، أن الثورات تنهي حال الاستعصاء، أو الانسداد، في تطوّر المجتمعات المعنيّة مهما كانت مآلاتها، وتعرّجت مساراتها، ومهما كانت أثمانها، ما ينطبق على حال الثورة في سوريا؛ على الرغم من كل تناقضاتها ومشكلاتها ونواقصها. في هذا الإطار، ثمة ملاحظة على غاية الأهمية لفت لها كرين برينتن، الذي أرّخ للثورات الأربع، الانجليزية والأميركية والفرنسية والروسية، في كتابه: «تشريح الثورات» (دار الفارابي 2009)، مفادها أن الثورات لا تنتهي، في معظم الأحوال، إلى النجاح المشتهى، أو المتخيّل، وأنها تفقد طاقتها، وتتحرّر من رومانسيتها، ليعود المجتمع الى الاشتغال بالطريقة العادية، أي بطريقة التطوّر التدريجي، باعتبار أن عملية التطوّر لا تحصل إلا على هذا النحو، لكن ذلك يحصل فقط بعد التخلّص من حال الاستعصاء، أو الانسداد، التاريخي، الذي فجّر الثورة.
الآن، ثمة تساؤل بات يلحّ بنفسه على كثيرين، أكثر من أي وقت مضى، بشأن ما إذا كان ثمة خيارات بديلة عن الثورة في سوريا، لاسيما مع كل المعاناة والعذابات والأثمان الباهظة التي تمخّضت عنها، نتيجة همجية النظام، والخذلان الذي تعرّضت له، وحال العجز والتخبّط والتلاعب الذي تعتري مساراتها وإدارتها.
والواقع فإن هذا السؤال، على مشروعيته، ينطوي على مخاتلة واضحة بإحالته حال الفوضى والاضطراب إلى الثورة ذاتها لا إلى النظام الذي تسبّب باندلاعها، ناهيك أنه ينطوي على إقرار بتطويب البلد للنظام القائم، وتالياً التسليم بمصادرة مستقبل السوريين، وحقوقهم وحرياتهم.
والحال، فإن النظام القائم في سوريا، منذ أربعة عقود، ظلّ بمثابة سدّ أو حاجز، أمام التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في هذا البلد، والذي كان بدوره عرضة، في أية لحظة، للتصدّع أو الانهيار بسبب حال الامتهان والقهر والغضب، التي ظلّت تعتمر في قلوب السوريين، طوال تلك الفترة؛ وهو ماحصل قبل ثلاثة أعوام.
هكذا، فقبل آذار/مارس (2011)، لم يكن أحد في سوريا يمتلك بديلاً أو خياراً آخر، فالنظام يعتبر سوريا بمثابة «عزبة» خاصّة يتوارثها الأبناء من الآباء، أي ليس لأحد حقوق فيها، فهذه عندهم «سورية الأسد إلى الأبد». أما بالنسبة لـ»المعارضة»، في ما يسمى «الجبهة التقدمية»، فهي على هزالها وفواتها مدجّنة وتشتغل تحت «سقف الوطن»، أي ضمن الإطار الذي رسمه لها النظام، لذا فقد كان جلّ همّها، طوال تاريخها، مجرد تحسين شروط عملها عنده، وكسب رضاه.
على ذلك، فإن استمرار حجز الدولة والمجتمع السوريين، وإبقائهما خارج التاريخ، في أسر العائلة الأسدية، من الأب إلى الإبن (وإلى الحفيد كما يفترض)، مع ما في ذلك من أدلجة وعسكرة وبعثنة، ومحو لهوية السوريين وتاريخهم وثقافاتهم وتنوعاتهم، هو البديل الوحيد عن الثورة، التي جاءت، كحالة انفجارية، بوصفها نقيضاً له، أو تصحيحاً له. وهذا يفيد بأن أي كلام عن مستقبل سوريا خارج هاتين الثنائيتين، أي النظام من جهة والثورة من الجهة المقابلة، هو كلام رغبوي، ولا معنى له، ويصبّ في إطار الإبقاء على حال «سوريا الأسد»، وبالتالي تطويع السوريين لعمليات الخضوع والمحو، بدعوى عدم يقينية الثورة أو بدعوى تجنّب أثمانها الباهظة.
ومعلوم أن الثورة في سوريا كانت عند كثيرين من سابع المستحيلات، لذا فهي لم تكن خياراً بين خيارات، ولم يجر التخطيط، أو التنظير لها. أي أنها انبثقت كحالة انفجارية، وعفوية، وباعتبارها بمثابة طريق اجباري للتغيير، ولتحرير السوريين من حال الإفقار السياسي والثقافي والروحي التي كانت تعتريهم، خلال العقود الأربع الماضية.
باختصار، فمع وجود نظام الأسد، كنظام شمولي، الذي اعتبر البلد بمثابة ملكية خاصة، لم يكن ثمة امكانية لبديل يتأسس على التطور التدريجي أو الطبيعي للبلد، وهذا ما تجسّد في طرح شعار: «الأسد أو نحرق البلد»، كبديل عن الثورة، والذي عبّر فيه النظام بشكل واضح عن استراتيجيته الخاصة لوأد تمرّد السوريين، أو سلب سوريا منهم، بمعنى تمزيقها وتخريبها والحكم عليها بالموات. أيضاً، لم يتوفّر أي بديل عن الثورة، عند النظام، بدليل أنه وبعد كل ما فعله بالسوريين، وضمن ذلك مصرع حوالي 150 ألف منهم، وتخريب عمرانهم، وتمزيق مجتمعهم، لم يقدم أي شخص آخر كمرشح للرئاسة بدلاً من بشار الأسد، الذي بات له في الحكم 14 عاماً، ولو كان من داخل النظام ذاته. حتى عند جمهوره ليس ثمة بديل، بل إن هذا الجمهور لا يبدي ولو بعض الحساسية الأخلاقية في التعاطف مع ضحايا النظام، الذين يذهبون بالعشرات يومياً ضحيّة الصواريخ العشوائية والبراميل الغبية، كما ولا مع ضحايا القتل تحت التعذيب ولا مع المشردين واللاجئين. أي أن هؤلاء لا يبدون بلادة سياسية وحسب، وإنما يبدون أيضاً لامبالاة إزاء قيم الحقيقة والعدالة والحرية، في وقت لا يتسامح فيه جمهور الثورة، أو المتعاطفين معها، مع المسارات والسلوكيات الخاطئة والمنحرفة في ثورتهم، والتي ظلت تتعرض إلى نقد قاس وشديد ودائم من قبلهم منذ اندلاعها.

هكذا، وفيما تحاول الثورة أن تصنع تاريخاً لسوريا، خارج تاريخ الطغمة الأسدية الحاكمة، وأن تدخل السوريين في السياسة، بعد أن حرمهم الأسد (الأب والإبن) منها، يعمل النظام بالضد من هذا وذاك، بإصراره على إبقاء السوريين في إسار «سوريا الأسد»، وبتجريده الصراع من أي معنى سياسي، إن باعتبار ما يجري مجرد مؤامرة خارجية، أو بتحويل الثورة إلى نوع من صراع هوياتي، أو بأخذ البلد إلى احتراب وجودي، وإلى حالة عدمية.

طبعاً، لاشكّ أن ثمة أشياء كثيرة يمكن قولها بشأن الثورة السورية، كعدم قدرتها على توليد مؤسسة قيادية بعد ثلاثة أعوام، وضعف حصانتها إزاء المداخلات والتلاعبات الخارجية، وغلبة الطابع العسكري عليها، وانحرافها عن المقاصد الأساسية التي انطلقت من أجلها، وحال الفوضى في المناطق «المحررة» التي تخضع لسيطرتها. لكن ما ينبغي قوله أن البديل عن كل ذلك لا يكمن في استمرار النظام، لأنه ببساطة هو المسؤول عن كل ماوصلت إليه سوريا اليوم، وعن كل ما يجري فيها منذ ثلاثة أعوام، وضمن ذلك فهو المسؤول أساساً عن تخليق ثورة على هذا النحو بالذات، بإيجابياتها وسلبياتها.