التدوين واﻻنتفاضة : ياسين السويحة- سانتياغو دي كومبوستيلا – اسبانيا

Article  •  Publié sur Souria Houria le 10 août 2011

في مداخلةٍ خلال ملتقى مدوّني المتوسّط الأول (إسبانيا أواخر نيسان الماضي)، أشار الكاتبُ والصحفيّ المصريّ هاني درويش إلى أنّ نظام مبارك، حبّاً بالإشارات والإشادات في التقارير والدراسات الدوليّة، عمل على دعم إدخال الإنترنت ونشره بقوّة في مصر خلال السنوات الأخيرة. لم يكن النظام المصريّ يعلم حين قرّر ذلك أنّه قدّم إحدى أهمّ أدوات التيّار الشعبيّ التحرريّ، الذي انتفض في الخامس والعشرين من كانون الثاني بعد حراكٍ كان للمدوّنين والناشطين الإلكترونيين دورٌ مهمّ فيه. وحين شعر النظام المصريّ بحجم ما يجري، حاول احتواءَ الموجة بقطع الإنترنت عن كافة أنحاء البلاد؛ فالطغاة يعتقدون أنّ إرادة الشعوب تحتاج إلى كابلات هواتف وألياف ضوئيّة لتنطق.

لم يحدث أمرٌ مشابه لذلك في سوريا. فالسلطات استشعرتْ خطورة هذه الأداة مبكّرًا وقررت التصرّف بكلّ الوسائل الممكنة لاحتواء إمكاناتها. لذا شكّلت المعلوماتيّة والوعودُ بتطويرها ونشرٍها جزءًا جوهريّاً من خطاب الرئيس بشّار الأسد في بدايةً عهده، قادمًا إلى رئاسة الجمهوريّة بعد إنشاء وترؤس الجمعيّة العلميّة السوريّة للمعلوماتيّة. إﻻ أنّ تطوّر البنية التحتيّة للإنترنت في سوريا سار ببطء شديد، وبعلاقة جودة ـ كلفة مجحفة للمستخدم السوريّ، أكان مقارنةً بالمتوسّط العالميّ أمْ بدول عربيّة أخرى. وقد لعبتْ معضلةُ سوء الخدمة وكلفتها العالية دورًا سلبيّاً في انتشار الإنترنت ككلّ، وبالتالي في استخدامه لأغراض التعبير عن الرأي ومقاربة الشأن العامّ ــ من تدوينٍ واستخدامٍ للشبكات الاجتماعيّة وغير ذلك. واجتمعتْ هذه المعضلة مع العقليّة الأمنيّة في التعامل مع الإنترنت ومستخدميه، وهي ليست إﻻ جانبًا من جوانب مأساة الحرّيّات والحقوق في سوريا.
الحجب الإلكترونيّ (وتخطّيه) جزءٌ من الروتين اليوميّ لمستخدم الإنترنت السوريّ. فقد طال الحجبُ عشراتِ البوّابات الإخباريّة المحلّيّة والعربيّة والعالميّة، بالإضافة إلى مواقع الجماعات والأحزاب المعارضة وجمعيّات حقوق الإنسان وبعض مخدّمات التدوين، ولم يوفّر النسخة العربيّة من موسوعة الويكيبيديا نفسَها. وقد رُفع الحجبُ في مطلع هذا العام عن بعض المواقع والشبكات اﻻجتماعيّة، مثل فيسبوك ويوتيوب، في رسالةٍ أريدَ منها التعبيرُ عن ثقة النظام بابتعاد سوريا عن موجة اﻻنتفاضات الشعبيّة العربيّة. لكنّ الأحداث أثبتتْ أنّ هذه الثقة لم تكن في محلّها، ولذلك استمرّ التعاملُ الأمنيّ مع الشبكة بممارسات مختلفة: مثل قطع الخدمة عن بعض مناطق البلد أو جميعها، وتخفيض السرعة لعرقلة تحميل مقاطع الفيديو المُسرّبة.
والحقّ أنّ الحجب الإلكترونيّ ليس إﻻ جزءًا من نتائج العقليّة الأمنيّة؛ فالمراقبة والملاحقات واﻻعتقالات بحقّ مدوّنين ومستخدمين للمنتديات والشبكات اﻻجتماعيّة هي حالات اعتياديّة ومتكرّرة في السيناريو السوريّ منذ بدايات دخول الإنترنت في سوريا. إنّ تهمة « نقل أنباء كاذبة أو مُبالغ بها من شأنها أن توهن نفسيّة الأمّة » (المادة 286 من قانون العقوبات السوريّ) غالبًا، وغيرها من المواد أحيانًا، جاهزة لحبس مدوّنين أو كتّاب إنترنت لسنتين ونصف السنة أو لثلاث سنوات بسبب مقال أو تعليق على اﻻنترنت. هذا ما حدث للمدّون طارق بياسي، أو لمشرف منتدى « أخويّة سوريا » كريم عربجي، الذي توفّي مطلع شهر آذار الماضي بعد عامٍ تقريبًا من خروجه من السجن.
كان لما سبق ذكره أثرٌ سلبي في تطوّر الحركة التدوينيّة السوريّة، حجمًا ونوعًا. فالمدوِّن عادةً شابٌ ﻻ يحترف الكتابةَ الصحفيّة أو النشاطَ الحقوقيّ، بل له حياةٌ مهنيّة أو دراسيّة بعيدة عن هذه المجالات، ومن ثمّ فهو يتعرّض لضغط الأهل والدائرة اﻻجتماعيّة المحيطة كي « يبتعد عن المشاكل. » هذا الضغط هو أُولى حلقات الحالة الأمنيّة التي عاش الشبابُ السوريّ محاطًا بها. غاب نمطُ النشاط المباشر (أكتيفيزم) بشكل كبير عن المشهد التدوينيّ السوريّ مقارنةً بمصر وتونس على سبيل المثال، لكنّ مفاهيم الحرّيات وهاجس اﻻنعتاق من شرنقة الكبت كانت حاضرةً دومًا في التدوين السوري، وإن استُخدمتْ، بشكل عامّ، لغةٌ بعيدةٌ عن الصداميّة والمباشرة، تتوسّل الرمزَ والإيحاء، غالبًا بطابع أدبيّ مثل القصّة القصيرة والمقالة.
نشط التدوينُ السوريّ في قضايا عديدة، مثل حملات مناهضة جرائم الشرف أو أسبوع التدوين للجولان. ولم يكن لأيٍّ منها، باستثناء حملة التضامن مع المدوِّن طارق بياسي بُعيد اعتقاله، طابعُ الاعتراض المباشر على السلطة في الشأن السياسيّ. ولم يكن صعبًا معرفة سبب ذلك؛ فمن المتوقَّع ألا يعبِّر مدوِّنٌ عن تضامنه مع مُعتقل عندما يُحتمل أن يكون تضامنُه هذا سببًا لمشاركة هذا المعتقل زنزانته. تفاعل جزءٌ كبيرٌ من المدوّنين السوريين مع اﻻنتفاضات العربيّة بعد إحراق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد في السابع عشر من كانون الأول الماضي. وبدا واضحًا في كتابات العديد منهم وفي نشاطاتهم أنّ الحماس لهذا الحراك الشعبيّ ذي المكوِّن الشبابيّ المهمّ ليس مجرّد تضامن بالحدّ الأدنى مع شعب عربيّ في أزمةٍ أو غضبٍ من هذا الديكتاتور أو ذاك بسبب تحالفاته الدوليّة مع الغرب، وإنْ كان لهذه الأخيرة حضورٌ مهمٌّ، خصوصًا في حالة الانتفاضة المصريّة. لكن التفاعل الكبير، الذي بلغ حدّ التماهي مع الشعوب المنتفضة وشبابها، كان ناتجًا من الشعور بأنّ حالهم مشابهةٌ لحال هؤﻻء الثائرين: فالمشكلات نفسها، والمعضلات ذاتها، والمتّهمون بالتسبّب بها متشابهون مهما اختلفتْ أسماؤهم وأشكالهم وألقابهم.
جمّد تفجّرُ اﻻحتجاجات الشعبيّة في سوريا في الخامس عشر من آذار الساحةَ التدوينيّة بشكل كبير خلال الأيام القليلة الأولى، إذ بالكاد لوحظ نشاطٌ متتبّعٌ لما يجري على الأرض. لم يكن الكثير من المدوّنين ذوي التوجّه الناقد أو المعارض في وارد كشف أوراقهم بسرعة والتعرّض لخطر اﻻعتقال شبه المحتوم. وقد كُسر هذا الجمود بمبادرة العديد من المدوّنين إلى نشر نصٍّ موحّدٍ في مدوّناتهم، في اليوم نفسه والساعة نفسها، يحوي مطالبَ تحرريّة وتغييريّة يمكن أن يُجمع عليها جزءٌ كبيرٌ من الفضاء التدوينيّ. ولاقى هذا النصّ المشترك، وعنوانه « رسالة مفتوحة من أجل سوريا، » الكثيرَ من الترحيب والكثير من اﻻنتقاد أيضًا. ففي حين رأى فيه البعضُ انحيازًا إلى ما اعتبروه مؤامرةً ضدّ سوريا، رأى البعضُ الآخر فيه محاباةً للسلطة ومن فيها. لكنْ رغم تضارب الآراء فيه فإنّ فائدته الرئيسة كانت في أنّه كسر حاجز الرهبة من الكتابة، وهو ما كان قد بدأ يحدث حينها في سوريا لدى الكثيرين. واختلفت الآراء والمقاربات بعدها في الفضاء التدوينيّ، مثلما حدث في خارجه.
ظهرتْ خلال شهور الانتفاضة السوريّة مدوَّناتٌ عديدة جديدة أنشئت خصّيصًا للتفاعل مع ما يجري بشكل حصريّ، وأنجز بعضها انتشارًا واسعًا من خلال الشبكات اﻻجتماعيّة أيضًا. ولعلّ إحدى أبرز هذه التجارب نجدها في موقع « المندسّة السّورية، » الذي يُمكن لمن يشاء أن ينشرَ فيه من دون أن يحتاج إلى كشف هويّته الحقيقيّة. ويَغلب على هذا الموقع، كما على أغلب المدوّنات الجديدة المتفاعلة مع اﻻنتفاضة، الطابعُ المتهكّم والساخر من رموز النظام وخطابهم، ومن لهجة وسائل الإعلام الموالية للسلطة. لقد رأى البعضُ في هذا اﻻنتشار الواسع للأسلوب الساخر نوعًا من الخفّة وقلّة الجدّية ممّا ﻻ يتناسب مع فداحة ما يحدث في سوريا؛ لكنّ هذا التشخيص في رأينا غير موفّق، لأنّ الخطاب الساخر ـ خصوصًا إنْ كان يحمل نوايا تفكيكيّةً لما يُسخر منه وليس فقط لمجرد الإضحاك ـ هو الأسلوب الأمثل والأسرع لمواجهة خطبٍ ورموزٍ شكّلتْ لنفسها هالةَ قداسةٍ مهيبة تحت وطأة الرعب الثقيل على مدى عقود. وعدا عن الأسلوب الساخر، تنتشر أيضًا الوسائلُ البصريّة، من كاريكاتير ومقاطع فيديو وغيرها، كوسائل إضافيّة لنقل الخطاب المناهض للسلطة، وذلك باستخدام ما يتيحه الإعلامُ اﻻجتماعيّ من وسائل تقنيّة للنشر.
***
ما زال المشهد السياسيّ السوري ضبابيّاً إلى حدّ كبير مع تثبيت اﻻحتجاجات الشعبية أقدامَها في وجه حلول أمنيّة لم تنجحْ في الحسم السريع، رغم استخدام كمّ هائل من العنف والقمع. وتشير المعطيات الموجودة والمواقف المعلنة للسلطة وللمحتجين إلى أنّ الحلّ ما زال بعيدًا. لكنّ أحداث الشهور الأخيرة غيّرتْ في سوريا وشعبها ما لم يتغيّر طوال عقود. فتعاطي السياسة الداخليّة، والحديثُ في الشأن العامّ الداخليّ، يعودان إلى حياة الشعب اليوميّة بعد عقودٍ من التصحّر في هذا الشأن، حين كانت مواقفُ النظام الخارجيّة و أدوارُه الإقليميّة هي التي تحتكر معنى « السياسة، » وما عداها مجرّد « محلّيّات » تقتصر على الشؤون الإداريّة والخدميّة في المحافظات والبلديّات. لقد انتهى هذا الجمود، ولم يعد الرجوعُ إلى ما قبل الخامس عشر من آذار ممكنًا، بغضّ النظر عن مآل الأحداث ومستقرّها. فالناس اليوم يريدون الحديثَ عن شؤونهم ومناقشتَها وإبداءَ الرأي والمشاركةَ في اتخاذ القرارات التي ترسم مصيرَهم ومصيرَ أبنائهم. ولم يعد النظر في اتجاه آخر وإغراق الذات في الحياة اليوميّة خيارًا، على الأقلّ بالنسبة إلى الشريحة الأوسع من المواطنين. الخوف الأسطوريّ من الجهر بالفكر في سوريا قد انتهى، ولو تشكّلتْ مخاوفُ وهواجسُ أخرى. وهذا التغيير يجد في التدوين وفي وسائط الإعلام الاجتماعيّ وسيلةً مضافةً للتعبير والمشاركة في الرأي. وتشير الخطوطُ البيانيّة للأحداث إلى أنّ هذا التغيير، وبالتالي التعبير عنه، في نموّ من دون توقّف.
المصدر: http://www.adabmag.com/node/405