التفاهمات الروسية ـ الامريكية: خوض عقيم بمستنقعات راكدة – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 11 mai 2013

خير للمرء أن يبدأ من قاعدة قياس بسيطة، لكنها جبّارة في مدلولاتها، الوظيفية بصفة خاصة، والراهنة تحديداً؛ ذات شقّين، متلازمين بالمعنى الجدلي، وإنْ بدا أنهما على تناقض: الشقّ الأوّل هو أنّ الانتفاضة السورية لم تنطلق، حين انطلقت قبل 26 شهراً ونيف، بإذن من الولايات المتحدة، بل العكس كان هو الصحيح، إذْ كانت واشنطن تتمنى بقاء أنظمة الاستبداد والتوريث والفساد والتبعية، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية؛ والشقّ الثاني، المتمم، هو أنّ روسيا لم تكن على اتفاق أو توافق مع أمريكا، من طراز يُذكّر بـ’وفاق’ العقود الأخيرة من الحرب الباردة، حول سُبُل ملاقاة الانتفاضة السورية، بل انتفاضات العرب عموماً.
تطبيق أوّل لقاعدة القياس هذه يمكن أن يعطي النتيجة المنطقية التالية: ليس انتصار الانتفاضة السورية على نظام الاستبداد والفساد، وبالتالي ليس انكسارها أو انتكاسها أو تعقّد مشهدها، على أصعدة داخلية، وطنية وسياسية وعسكرية، وأخرى إقليمية ودولية، مرهوناً باتفاق أمريكي ـ روسي من أيّ نوع؛ أو، على نحو ملموس أكثر، من النوع الذي تردد أنه نجم مؤخراً عن لقاء وزيرَي خارجية البلدين، جون كيري وسيرغي لافروف في موسكو. صحيح أنّ أية صفقة حول الشأن السوري بين واشنطن وموسكو، أو أيّ من قوى الكون العظمى الأخرى، يمكن أن تؤثر سلباً أو إيجاباً على واقع الأرض والمجريات اليومية في الانتفاضة السورية؛ إلا أنها ليست العامل المرجّح الأوّل، وليست عنصر الحسم في كلّ حال، فمَن لم يكن أصل البدء في أمر، ليس له أن يكون الأصل في اختتامه، بحكم المنطق البسيط بالطبع، ولكن انحناءً أيضاً أمام إرادة الشعب السوري وتضحياته وقراره بطيّ صفحة النظام، مرّة وإلى الأبد.
وهكذا، إذا كان المرء متعاطفاً مع النظام السوري، أو حتى كارهاً لممارساته الوحشية ولكنه ‘ممانع′ معادٍ لأمريكا؛ فإنه سيطرب إزاء اتفاق كيري ولافروف على خطط لعقد مؤتمر دولي يجمع النظام والمعارضة، وسينطوي الطرب على إحساس بأنّ هذا التوافق الأمريكي ـ الروسي هو في صالح بشار الأسد. أمّا إذا كان امرؤ آخر معارضاً للنظام السوري، فسيقرأ المشهد من زاوية مناقضة تماماً، إذْ سيعتبر أنّ موسكو هي التي أخذت تميل إلى التنازل، بدليل تصريح لافروف: ‘لسنا مهتمين بمصير بعض الأشخاص. نحن مهتمون بمصير الشعب السوري بأسره’؛ وتصريح كيري في روما، اليوم التالي: ‘بشار الأسد لا يمكن أن يشارك في حكومة انتقالية سورية’. وثمة، في القراءتين معاً، استسهال تحليلي يتيح التسرّع في استخلاص النتائج، ويغيّب سلسلة اعتبارات أخرى أكثر صلابة، وأشدّ واقعية، اقترنت بلقاء موسكو هذا، وربما بأيّ تفاهمات حول الملفّ السوري يمكن أن تتفق عليها أمريكا وروسيا.
وهكذا، إذا كان امرؤ ثالث أقرب إلى ترجيح تجارب التاريخ في الماضي والحاضر، فالأرجح أنه سوف يبدأ من وقائع الانتفاضة السورية ذاتها، وتطوراتها اليومية (خاصة بعد مجازر البيضا ورأس النبع في بانياس، وانخراط الميليشيات الموالية في عمليات تطهير طائفي تبدأ من قرى ذات أغلبية سنّية في قلب الأغلبية العلوية)، وأوضاع النظام العسكرية والأمنية والسياسية (الارتهان، أكثر فأكثر إلى إيران و’حزب الله’، والعجز الفاضح أمام الغارة الإسرائيلية، وخسران المزيد من المواقع العسكرية في ريف دمشق وحوران والجولان وحمص وإدلب وحلب…). ليست هذه معطيات نظام ظافر، أو مستقرّ القوة، أو حتى مرتاح في معاركه؛ وإلا فما الذي يقذف به إلى مزيد من السيناريوهات الانتحارية (كما في تسعير استعداء الأغلبية السنّية عبر ارتكاب مجازر وحشية وبربرية جديدة)، أو المهازل المبتذلة (كما في الردّ على الغارة الإسرائيلية عن طريق السماح لـ’المقاومة الفلسطينية’ بالعمل انطلاقاً من الجولان المحتلّ).
ولعل المرء ذاته سينتقل إلى الخيار الوحيد، العالق والجامد، الذي يتأكد أنّ موسكو صارت منحصرة فيه، وأسيرة معادلاته الخاسرة التي لم تعد تليق بقوّة عظمى، أي الاستمرار في مساندة نظام لا تتداعى أركانه ركناً بعد آخر، منذ سنتين، فحسب؛ بل سار، ويسير حثيثاً، نحو سيناريوهات تأزيم محلية وإقليمية ودولية لا تملك موسكو رفاه الوقوف مكتوفة اليدين أمام تداعياتها. وبمعزل عن حصيلة كهذه، بائسة وفقيرة في خدمة مصالح دولة عظمى تعطّلت علاقاتها، أو تجمدت، مع دول عربية وخليجية فاعلة اقتصادياً وسياسياً؛ فإنّ روسيا تدرك جيداً أنّ تقوية التيارات الإسلامية والجهادية المتشددة المقاتلة ضدّ النظام في سورية، سرعان ما ستُترجم آثاره الكارثية على امتداد الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي، وسينقلب إلى بؤر قتال ضدّ موسكو، لن تكون اقلّ من حاضنات تشدّد قصوى هي آخر ما يشتهيه الكرملين… ثمناً لنظام بشار الأسد!
مفيد، إذاً، التذكير هنا بأن العلاقات الروسية مع النظام السوري، في عهد الأسد الوريث بصفة خاصة، ظلت تحصيل حاصل متفق عليه، ويحظى بإجماع طبيعي؛ لولا أنّ ما معادلات خافية اكتنفتها ورسّخت منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه أطاح بقسط لا بأس به من معنى الحصيلة ذاتها. ذلك لأنّ النظام كان يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يتلهف على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون؛ فهذه اكتسبت الأولوية على المستوى العملي التكتيكي، بل حدث أنها صارت غاية عليا على المستوى الستراتيجي كذلك. وموسكو لم تجهل هذا، كما للمرء أن يتخيّل، فكانت تقيم التوازن مع النظام على هذا المعيار، منذ ولاية فلاديمير بوتين الأولى، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو بعد أن ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.
عمود ثانٍ في معمار ‘صداقة’ موسكو مع النظام هو أنّ العلاقات الروسية ـ الإسرائيلية صارت أفضل حالاً من العلاقات الروسية ـ السورية، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، الذي خالف الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية في رفض إدانة سياسة الحديد والنار التي اعتمدتها موسكو في بلاد الشيشان، بل لجأ إلى النقيض فباركها وامتدحها. ولعلّ واقعة قيام بوتين بزيارة إسرائيل ومصر، ولكن ليس سورية، في نيسان (أبريل) 2005، أي بعد أقلّ من ثلاثة أشهر على زيارة الأسد إلى موسكو (حين لاح أنّ العلاقات عادت متينة، بدليل استعداد موسكو لتزويد سورية بصواريخ ارض ـ جوّ متطورة)؛ كانت بمثابة تذكرة صارخة بأنّ المياه لم تعد تماماً إلى مجاريها، وأنّ خيار الأسد في اللعب على حبال روسية، لشدّ انتباه المتفرّج الأمريكي أساساً، لم تكن خافية على موسكو.
عمود ثالث، جيو ـ سياسي بامتياز، إقليمي ودولي، هو أنّ موسكو تضع العلاقات مع النظام السوري في إطار الفلسفة ذاتها التي أخذت تقود نهج روسيا على امتداد المنطقة، والتي تقوم على قاعدة أولى بسيطة: نحن أصدقاء مع الجميع، أنظمة ‘الاعتدال’ مثل أنظمة ‘الممانعة’، وإسرائيل مثل إيران، و’حماس′ و’حزب الله’ مثل السلطة الوطنية الفلسطينية وجماعة 14 آذار في لبنان… والفيصل في هذا كلّه هو مصالحنا الاقتصادية العليا، وهذه وفيرة ويمكن أن تكون مجزية تماماً، من جهة أولى؛ فضلاً عن اكتساب سكوت الشارع العريض المسلم، السنّي بصفة خاصة، عمّا ارتكبته وترتكبه موسكو من مجازر وأعمال قمع في بلاد الشيشان، من جهة ثانية. ولهذا فإنّ واحدة من أشهر الحماقات التي تكفلت بتعكير صفو العنصر الأخير، كان تصريحات لافروف، في آذار (مارس) 2012، أنه ‘إذا انهار النظام القائم في سورية، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة بإقامة نظام سني في البلد’، وهذا سوف ‘يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق’!
البيت الأبيض، من جانبه، يتلهف على تحريك المياه الراكدة، في مستنقع أغرق الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه فيه، حين تحدّث عن ‘خطّ أحمر’ يمثّله استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، وأنّ تجاوز ذلك الخطّ سوف يغيّر قواعد اللعبة. الآن يسرّب مساعدو الرئيس، كما فعلوا مع تحرير ‘نيويورك تايمز′ مثلاً، أنّ أوباما تسرّع فارتجل عبارة ‘الخطّ الأحمر’، وأنها تسرّبت إلى تصريحاته من وحي قاموس التسخين اللفظي المعتمد في الحديث عن البرنامج النووي الإيراني. ولكن هيهات أن تفلح تسريبات كهذه في إرضاء أمثال السناتور جون ماكين، الذي يريد من رئيس القوة الكونية العظمى أن يكون جديراً بالمنصب، وأن يصدق في ما يقول، وفي ما يعد (وهذا، في الواقع، ما أخذ أوباما يشدد عليه في الآونة الأخيرة، كلما سنحت فرصة لمخاطبة الصحافة).
أمّا في الجوهر، فإنّ موقف إدارة أوباما من الانتفاضة السورية حكمه التقدير التالي: تأجيل الحسم، حتى تتضح الصورة أكثر (خلال الأشهر الأولى لانطلاقة الانتفاضة)؛ وحتى تفعل عوامل تفكك النظام فعلها تلقائياً، حسب مبدأ ‘الهبوط السلس′ (خلال الأشهر الوسيطة)؛ ولكي لا يكون للملفّ أيّ تأثيرات سلبية على إعادة انتخاب أوباما، أو المساس بصورته كقائل بعقيدة الامتناع عن زجّ أمريكا في حروب جديدة بعد الخروج من أفغانستان والعراق. وليس عسيراً تلمّس مجموعة الأسباب التي قادت البيت الأبيض إلى هذه المراوحة في الحسم، والتي يراها البعض حال تردّد (لا يراوح في الجوهر، بقدر ما يركن إلى تاريخ طويل من حسن العلاقات مع نظام ‘الحركة التصحيحية’، وضآلة الرغبة في المراهنة على نظام سواه، قد تكتنفه مجاهيل كثيرة)؛ أو حال تجميد ذاتيّ (يكتفي بالعقوبات، والضغوط الدبلوماسية، والتصعيد اللفظي، وتشجيع الحلفاء الأوروبيين، والإيحاء باحتضان المعارضة).
وهكذا، كان اللقاء الروسي ـ الأمريكي في موسكو مؤخراً، وإعلان الاتفاق على مؤتمر دولي لبحث أوضاع سورية، ‘يُعقد في أسرع وقت ممكن’ كما قيل، هو أحد الحلول الدراماتيكة للإيحاء بتحريك مياه المستنقع الدبلوماسي الأمريكي، والإيحاء بأنّ أوباما عند كلمته، ومصداقيته ليست محلّ تشكيك. أمّا على الجانب الروسي، فإنّ موسكو كانت بحاجة لاسترداد بعض ماء الوجه، في أعقاب الصفعة التي مثّلتها الغارة الإسرائيلية على نظام يُفترض أنه ‘حليف’؛ وبحاجة، أيضاً، إلى تأكيد حضورها في الملفّ السوري، بعد أن بدا وكأنّ إيران تلتهم النظام السوري قطعة قطعة.
ولعلّ من الخير، هنا أيضاً، التذكير بعُرف شائع في الدبلوماسية العالمية، أفاد على الدوام بأنّ اللجوء إلى عقد مؤتمرات دولية حول أزمات عالقة، لا يعني دنوّ الحلول بالضرورة، بل قد يعني العكس تماماً: أنّ الحلول غائبة، ويتوجب التنقيب عنها عبر الخوض في… مستنقعات راكدة!

http://www.alquds.co.uk/?p=42659