الحكم بالتذكر: من أصول المحنة السورية – ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 25 mars 2012
في 1985، وبمناسبة «تجديد البيعة» الثالثة له، لم يلق حافظ الأسد خطاباً يقول فيه إن سورية مرت قبل سنوات قليلة بأزمة وطنية قاسية، وقتل سوريون سوريين، وإن الدولة اضطرت للتعامل بصرامة مع هذا الظرف الأليم، ومن المحتمل أن تجاوزات قد حصلت أثناء ذلك، لكننا عاقدون العزم على طي هذه الصفحة وتجاوزها، وأنه بعد تفكير ومداولات في الأمر قررنا الإفراج عمن كنا اضطررنا لاعتقالهم، باستثناء من يثبت القضاء أنهم مسؤولون عن قتل مواطنين آخرين، وسننظر في أية تجاوزات على الممتلكات والأرواح حصلت أثناء الأزمة، ونعالجها بروح من الإنصاف والأخوة الوطنية، ونؤمّن جميع من غادروا البلد على حياتهم وكرامتهم إن عادوا، وسنعمل على إصلاح مؤسساتنا السياسية باتجاه يوفر تمثيلاً أوسع للسوريين

في ربيع 1985، كانت انقضت ثلاث سنوات على مذبحة حماة التي راح ضحيتها عشرات ألوف السوريين، وكانت انقضت نحو 6 سنوات على مذبحة مدرسة المدفعية التي سقط فيها عشرات (ربما 80) من طلاب الضباط العلويين على يد عنصر من «الطليعة المقاتلة» للإخوان المسلمين، وأقل من خمس سنوات على مذبحة تدمر التي وقع ضحيتها بين 500 و1000 من المعتقلين الإسلاميين، وسنوات على اعتقال يساريين ونقابيين، وسوريين متنوعين. وكانت مضت أيضاً أقل من ثلاث سنوات على الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، وخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، ولم يكن هناك خطر داخلي أو خارجي على النظام حينها

لكن حافظ الأسد لم يلق الخطاب. لو فعل لكان حقق نصراً كبيراً في صراع سياسي وعسكري استطاع فيه إلحاق الهزيمة بكل من عارضوا نظامه في الداخل. هزيمة الخصوم بوسائل عسكرية أو أمنية ليست بحد ذاتها نصراً، النصر سياسي، وحافظ الأسد لم ينتصر لأنه لم يعرف كيف يعيد بالسياسة اكتساب ما كان اكتسبه بالعنف، وقد كان عنفاً منفلتاً ومتجاوزاً لكل حد وطني وإنساني. كان من شأن إعادة الاكتساب السياسية تلك أن تعود على نظامه بقدر من الشرعية، وعلى شخصه بتقدير أكبر، وعلى المجتمع الذي يحكمه بدرجة من التعافي

بدلاً من ذلك صعّد النظام من عبادة الرئيس، وانتقل من نشر صوره في الفضاء العام إلى احتلال هذا الفضاء بالتماثيل، ودشن التصويت للرئيس الذي ينافس نفسه بالدم، وبرقيات الولاء بالدم أيضاً، وإجبار تلامذة المدارس وجنود الجيش على الهتاف له ثلاثاً كل صباح. هذا بينما كان في السجون عشرات الألوف، وبينما كانت سورية تعرف العصر الذهبي للمخبرين والوشاة وأسافل الناس، وطبعاً أجهزة الأمن المرعبة. ومضى بالتعامل الانتقامي الحقود مع عموم السوريين

والخطاب الذي لم يلقه حافظ عام 1985، لم يلقه في أي وقت لاحق. بقيت القوة، لا السياسة ولا الحق، هي الحكم بينه وبين محكوميه

هناك شيء صغير في الرجل الذي كسب معركة مسلحة، لكنه لم يعرف كيف ينتصر. كان ينقصه الشيء الذي كان من شأنه أن يحول نجاحه العسكري والأمني على خصوم أضعف منه بلا جدال إلى نصر سياسي عام: قدر من النبل وقدر أقل من روح الانتقام، وشخصية رجل الدولة، وشيء من بعد النظر التاريخي. شيء من روح الحرية أيضاً

خاض الصراع بروح الحرب المطلقة التي تؤول إلى إبادة الخصوم، وليس إلى تسوية سياسية معهم من موقع متفوق. وعمل جدياً على إبادة كل خصومه، إن لم يكن مادياً، فسياسياً، بمن فيـــهم من انــحصرت مخاصمــتهم لنــظامه بالسياسة والكلام. أراد كل شيء له ولأسرته ونظامه، فأبقى كل شيء منازعاً فيه

الجراح الغائرة في الجسد السوري بقيت دون علاج. والبلد لم يحقق تقدماً على أي صعيد خلال 30 عاماً من تلك المحنة، لا على المستوى العسكري في مواجهة العدو الرسمي، ولا على مستوى الاقتصاد والتطور التكنولوجي، ولا على مستوى التفاهم الوطني والمعنويات العامة، ولا على مستوى التعليم والثقافة، ولا على مستوى كفاءة الإدارة. فقط استقرار أمني، أشبه باستقرار القبور، بعبارة صادق جلال العظم، أتاح للطاغية الحقود توريث الحكم لابنه

بعد موت حافظ وقع على ضحاياه السابقين أن يحملوا دعوة المصالحة الوطنية أيام «ربيع دمشق». صيغت الدعوة في مبادرة سياسية وفي مقالات ومحاضرات، ولكن ووجهت بالمراوغة والاعتقال، فصح القول في الحكم الأسدي إنه يرضى القتيل وليس يرضى القاتل

وبعد 11 عاماً على موت حافظ الأسد سُمع في ساحات المدن السورية هتاف يحمل أصداء السنين، ويعلن أن السوريين لم ينسوا شيئاً: يلعن روحك يا حافظ! كان ابن حافظ الأسد، بشار، يواجه المحكومين بنهج أبيه نفسه، نهج الإبادة المادية والسياسة: لا تنازلات من أي نوع للمحكومين الثائرين، لا وقف للعنف الإرهابي ضد السكان المدنيين، لا تفاوض مع أي معارض. على الطريقة الإسرائيلية، يعتبر النظام أي اعتراض عليه خطراً وجودياً، فيواجهه بعنف ساحق، وبروح متعصبة حقود سبق أن خبرناها أيام الأب أيضاً

فإذا كان تاريخ سورية طوال الحقبة الأسدية حتى يومنا يبدو دورياً، نعود فيه اليوم إلى العام 1980 وما بعده، فبالضبط لأنه «حكم طبيعي»، ينضبط بمنطق الملك والعصبية والشوكة، ويقاوم بكل عنف ما من شانه أن يكسر الـــدورة، الحــرية والســـياسة والاعــتراف بالمحكومين. الحكم الطبيعي يحكم بالتذكر لا بالتطور، ولذلك يكرر تاريخه

لذلك أيضاً فإن عهد الابن الذي «تذكر» كيف يجيد قتل محكوميه وتعذيبهم، سيتذكر أيضاً ألا يبادر في أي يوم إلى مصالحة السوريين الذين يعاملون كأعداء، إذا ما تمكن من سحق كفاحهم الشجاع. هذا نظام للعبودية السياسية، لا يُصلِح ولا ينصلح. وهو صريح في إعلان برنامجه السياسي الذي لم يحد عنه لحظة واحدة: الأسد أو لا أحد! أو بوضوح أكبر: الأسد أو نحرق البلد! غير أن هذا تخيير بين شكلين من خراب البلد: حرب باردة تبقي السوريين بلا حرية ولا كرامة ولا تقدم عام على أي مستوى، أو حرب ساخنة، تقتلهم بالألوف وعشرات الألوف وتدمر شروط حياتهم المادية والسياسية والمعنوية. لا يفرض النظام على السوريين شكلاً واحداً للخراب الوطني، يوفر لهم حرية الاختيار بين شكلين

الحياة – الأحد، 25 مارس 2012

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/378581