السجون السورية والمثقف الجديد -الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 10 juillet 2012

لعل الدرس الأكثر بلاغة الذي تعلمته، ولا ازال اتعلمه، من ياسين الحاج صالح، هو التواضع المصحوب بالغنى الفكري والالتزام المبدئي، الذي يجعل من المثقف ضميرا اخلاقيا وقدوة ومرجعا. اذكر انني التقيته للمرة الأولى في دمشق، وبعد اصراري على الكلام عن تجربة سجنه الطويلة، اكتفى الرجل بأن تحدث عن كاحليه. رأيت السجن محفورا بشكل مادي وواضح على الكاحلين من اثر الربط بالكابلات الكهربائية. وعندما اردت المزيد اكتفى الرجل بابتسامة قصيرة، وغيّر الموضوع.
ثم التقيته مرة ثانية يتيمة في بيروت، قبل ان يصدر قرار منعه من السفر، وتحولت لقاءاتنا بعد ذلك الى تواصل ثقافي/سياسي عبرت عنه تجربة نشر مقالاته في ‘الملحق’ الذي كان يصدر عن جريدة ‘النهار’ في بيروت، قبل ان تضطرني الظروف المنقلبة الى مغادرته.
اكتشفت هذا الرجـــــل من جديد مع انطلاقة الثورة السورية، صار ياسين احد اصواتها المميزة، بل اكاد اقول صوتها الثقافي الأكثر عقلانية ووضوحا. مع هذه الثورة تعــــــرفت الى مثقف يمزج الشجاعة بالحس النقدي، والوضوح بحساسية انسانية مرهــفة. لم يغادر ياسين وطنه، اختار الطريق الصعب، مقدما الاشارة الاولى الى ولادة مثقف سوري جديد، مثقف ما بعد المعارضة التقليدية القديمة. يولد هذا المثقف في العـــمل السري الذي يحوّل النضال الى فعل علني، جاعلا من الكتابة سلاحا في مواجهة السلاح الذي يقتل به النظام الشعب الثائر ويدمر مدنه وقراه.
صارت صفحة ياسين على ‘الفايسبوك’ احــــدى نوافذنا اليومية على سورية التي تولد من جديد، وصار مقاله الأسبوعي في ‘الحياة’ مؤشراً على احتمالات الثورة. معه ومع امثاله من المثقفين والمناضلين صارت الكلمة فعلا، والحرية افقا، والثورة طريقا.
لا شك ان ياسن الحاج صالح يعرف انه يساهم في كتابة تاريخ جديد لبلاده، وان عمله الكتابي والثقافي سوف يشكل احد مراجع تاريخ الثورة السورية، كما انه يعرف ان هذه الثورة هي صرخة الخلاص الحقيقية التي انتظرتها سورية طويلا.
عنون ياسين كتابه عن تجربته في السجن ب ‘بالخلاص يا شباب’، (دار الساقي بيروت)، لكن عبارة الخلاص هذه تأخذنا الى ما بعد السجن، وتكشف لنا كيف استطاع المثقف ان يقرأ تجربته بعين نقدية، وكيف صارت هذه العين هي بداية الرؤية التي تشق طريق الثورة وتتفاعل معها وتكتبها.
قرأت كتاب ياسين الجديد في وصفه استكمالا لكتابي ‘خيانات اللغة والصمت’ لفرج بيرقدار و’القوقعة’ لمصطفى خليفة. يروي الكتابان تجربة السجن والمعاناة في جحيم سجن تدمر الرهيب، بينما يقوم ياسين الحاج صالح في كتابه ‘بالخلاص يا شباب’ بتفكيك التجربة وتحريرها من اطلاقيتها، ليحولها من تجربة استثنائية الى تجربة حياة، فاستبطنها وتجاوزها مقدما قراءة جديدة لتجربة السجن السياسي في سورية والعالم العربي.
لن يوافق ياسين الحاج صالح على اطلاق صفة ادبية على كتابه، لكن اذا لم يكن الأدب رؤية واستشرافا ومعرفة وسلاسة انسانية، فماذا يكون؟
استخدمت كلمة سلاسة ليس كصفة للأسلوب الجميل والبسيط والمباشر الذي كتب به ياسين فقط، بل كصفة للمعنى الانساني العميق الذي ينضح به النص. سلاسة انسانية تأخذنا الى تأمل تجربة السجن، والى تجاوز البطولة الى الحياة نفسها. فالحياة تضيق بالبطولة حين تكتشف فضائل صناعة اليومي، وهذا المزيج من الضعف والقوة، الذي يحوّل السجن الى جزء من تجربة الحياة نفسها، محررا السجين من سجنه والكلمات من قشورها.
يشكّل هذا الكتاب انزياحاً فعلياً في ادب السجون العربي، لا لأنه يروي تجربة بطولية خارقة، بل على العكس من ذلك تماما، لأنه يروي تجربة انسانية عادية، محولا الانساني الى بديل عن الاسطوري، وصناعة الحياة اليومية الى افق للمعاني التي تمتلى ء بها التجربة الفردية والجماعية.
ما رواه ياسين عن تحرره في السجن من سجونه الأخرى، وما أطلق عليه اسم تجربة الاحتباس، وما قدمه من تحليل سوسيولوجي لتجربته وتجارب اقرانه، يقوم بفتح ابواب الحرية على مصراعيها، فالرجل الذي بنى كتابه على ما يمكن وصفه بالاعتراف التأملي، وضع للمرة الأولى تجربة سجن اليساريين السوريين في الثمانينات في اطار تاريخ سورية. (للأسف لم يستطع الكاتب الوصول الى ادراج تجربة السجناء الاسلاميين في كتابه، وهذا يعود الى اسباب ايديولوجية، شرحها الكاتب، جعلت من هذه التجربة بكماء).
ترويض الوحش والثورة على الذات واكتشاف الثقافة والحياة، هذه هي تجربة طالب كلية الطب الذي دخل السجن فتى في العشرين، وخرج منه بعد ستة عشر عاما واربعة عشر يوما رجلا ومثقفا في السادسة والثلاثين.
‘في السجن تبدّى لي ان افضل طريقة للتحرر منه هي جعله اطارا للتحرر من سجون اخرى، نحملها في ارواحنا وعقولنا: سجن الايديولوجية وسجن الحزب وسجن الأنا’.
يقود هذا التحرر الى تفكيك ايديولوجية السجن واساطيرها: ‘وبقدر ما يمحو السجن الفردية، فان واجب الكتابة عن السجن هو، بالعكس، شق بطن هذا الوحش واستخراج الأفراد منها واحدا واحدا’.
في الفصل الذي يحمل عنوان: ‘عن مثقفي السجن بالأحرى لا عن سجن المثقفين’، يشير المؤلف الى حقيقة صارخة تقول ان المثقفين السوريين لم يدخلوا السجون لأنهم استخدموا رصيدهم الثقافي او رأسمالهم الرمزي للاعتراض على سياسات عامة، اما اعتقال بعض المثقفين ‘فقد تم بسبب انخراطهم او قربهم من تنظيمات سياسية معارضة’. تشير هذه الحقيقة الى عطب ثقافي كبير لم يعالجه هذا الكتاب، لأنه ركّز على ظاهرة جديدة وربما فريدة، وهي ان السجن الذي تعرّض له حوالي الف شاب يساري كان الرحم الذي ولد منه جيل جديد من المثقفين السوريين، هو الجيل الذي ينتمي اليه ياسين ورفاقه.
الآن ونحن نقرأ الكتاب على ايقاع الثـــــورة السورية بتضــــحياتها الهائلة نكتشف المسافة الكبرى بين المستوى السياسي للمعارضة السورية الغارقة في الانانيات والتمزق وفقدان المبادرة، وبين النموذج المضيء الذي تصنعه تضحيات شعب ثائر قرر الخلاص من الاستبداد، ومواجهة آلة الوحش المعدني بالصمود والصبر.
هذه المسافة لا يستطيع ان يتجـــــاوزها سوى انخــــراط المثـــقف السوري الجديد في عمل نقدي ينطلق من مشاركته في الثورة.
تحية الى ياسين الحاج صالح.

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\09qpt998.htm&arc=data\2012\07\07-09\09qpt998.htm