الشاعر السوري فواز القادري: جلال الرزء وسياسة القصيدة – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 29 mai 2014

«شهداؤك أرحب من القصيدة»، يقول فواز القادري(*)  مخاطباً سوريا، بلده الذي يعيش انتفاضة شعبية عارمة، واسم العَلَم الذي صار عنده تسمية من طراز فريد، أقرب إلى نطاق استثنائي عريض، ممتلىء وطافح، متسع حتى يكاد أن يتفجّر. «رأيتُ ساحات/ تتشاجر على أسماء الشهداء»، يتابع القادري في تلمّس انفراد اسم العلم هذا، إذْ يحتشد بواقع ملحمي يجاري أقصى المجاز، أو يحيل الرمز إلى تفصيل ميداني ساعة تظاهرة، أو برهة مجزرة، أو بارقة أمل، أو «صرخة طفل في الشارع»، أو «هلهولة امرأة في جنازة»… وليس لذاك الاحتشاد إلا أن يردّ الاستعارة إلى مصافّ مشهد دنيوي زاخر، تبدو مكوّناته البشرية أشدّ بلاغة مما في وسع المخيّلة أن تستعير أو تُجيز، أو تكوّن. وليس له، استطراداً، إلا أن يبادل رهبة ما تشهده الأرض من آمال وآلام، برحابة ما تقتنصه القصيدة من إبدالات شعورية، وشعرية.
و»سوريا أوسع من دمعة إله»، يمضي القادري أبعد في استكناه اسم علم كفّ عن توصيف وطن، أو بلد، أو جغرافية ملموسة، أو تاريخ مدوّن؛ فصار مقام انعتاق، ومحطّ أمل، ومختبر مقاومة، ومخاض رؤيا، وحاضنة ولادة، وشرفة مستقبل، وإشراقة فجر… وصار السوري، مشروع الشهيد الذي لا مفرّ من أن يضيق عنه المجاز، «يعادل قافلة غزلان/ وقطيع قطا فراتيّ/ ذائع الصيت/ وكتيبة نجوم بنياشينها/ وفرقة مُزهرة/ من التلال والوديان». فإذا تزاحمت أسماء الشهداء مع أسماء القرى والبلدات والمدن، ثم تشابكت حال الازدحام هذه مع مشاهد القتل والقصف والندب والنزوح، وانضمت إليها تظاهرة تحدٍّ هنا أو رقصة صمود هناك؛ فإنّ النطاق العبقري الاستثنائي لا يتجاوز الاسم وحده، إلى تكوين جغرافي عبقري كوني وفائق، فحسب؛ بل يعود ببساطة إلى إعادة إنتاج ذاته، ومكوّنات ذاته، في ذاته… وكفى بعودة، كهذه، شاهدة على الإعجاز.
والشاهدة تفضي إلى حلقات متصلة، ومتعاقبة، من شهادات على وقائع الانتفاضة الشعبية، تكتسب الصفة التسجيلية تارة، فتُدرج أسماء الشهداء والأماكن على نحو لا يتوسل التوثيق، بقدر ما يسعى إلى تظهير الحضور الإنساني، تارة؛ أو تدمج الكائن بالمكان، ونهر الفرات بـ»ربطة الخبز»، على نحو يستلّ الوثيقة من رحم اختلاط المخيّلة بالبصيرة. وثمة، على الدوام، ميل جارف إلى المؤاخاة بين الحدث ومجازاته، الملحمية البطولية («تعوّد صغارنا/ على تشابه المآتم والأعراس/ على الأمّهات يشحْن/ بقلوبهنّ عن العزاء»)، أو الهشة المستضعفة («كشبوط يتقافز في غدير ناشف»). وإذا كانت القصائد غير مذيّلة بتواريخ كتابتها، بما يجعلها مفتوحة على أزمنة الانتفاضة ككلّ متواتر، مفتوح بدوره على مزيج يوميّ من تفاصيل هذه القيامة السورية؛ فإنّ التاريخ يبدو حاضراً مثل خلفية أساس كبرى، شفيفة أو كثيفة، مموّهة عن سابق قصد أو نافرة مثل دفق الدم.
والحلقات المتصلة والمتعاقبة تدور أكثر حول دير الزور، مدينة القادري («في الدير ظلّ لخطواتي القديمة/ وبيت شعر بلا جداران»)، والفرات، نهرها العظيم («كان الفرات سماءها الوحيدة/ كلّ غيمة بيت/ وكلّ ظلّ جدار»)؛ غير أنّ التكاثر هذا يندر أن ينفصل عن جغرافيات سورية أخرى، أو ينأى بالأحرى عن تلك الجغرافية التي تتشابك فيها تضاريس الاحتجاج والمقاومة والاستشهاد، فينقلب الفرات إلى أمثولة في ذاته، وفي امتداد إلى أمثولة أخرى، أو مشهدية نظيرة، هنا وهناك في سوريا الثائرة.
هي، كذلك، حلقات تذهب أبعد من الجغرافيا السورية، إلى تلك العربية ذات الصلة بانتفاضات تونس (حيث البوعزيزي، «سائق عربة خضار القدر»، الذي غيّرمصائرنا «حين تلفّع بالنار»)؛ ومصر («يا أمّ الدنيا/ يا أمّ الفقراء والمساكين/ يا نسيس روحنا الخضراء»)؛ وليبيا («الصبيّة الأسيرة» التي «شاخت قبل بلوغها/ شاخ حلم أطفالها/ وتجرثمت القروح»)؛ واليمن (حيث «صنعاء طفلة القبائل المدلّلة/ تاج بلقيس المرصّع بالأرواح/ لم يعد لديها شهيّة/ للخدر في مضائف القات»)…
لكنّ القادري لا يؤرّخ، ولا يدوّن، ولا يسجّل ولا يوثّق، في المقام الأوّل؛ بل يكتب شعراً يتوسّل مجاراة هذه العبقرية الشعبية، البطولية والملحمية، أو يتحرى مواطن الشعرية في وقائعها، ويسعى إلى جمالياتها، خافية مستترة أم جلية بيّنة. الأرجح أنه، إذْ يستعيد قسطاً كبيراً من افضل تقاليد الشعر الوطني، وخيرة منجزات القصيدة المقاوِمة؛ يؤمن بتلك المقولة العتيقة، التي تأكدّت مصداقيتها على مرّ القرون: أنّ التاريخ، تلك القوّة التي تحرّك السياسة ضمن الاجتماع البشري، تحرّك السياسة في الشعر أيضاً، أو لعلّها تحرّك سلطة القصيدة في قلب معترك السياسة. لهذا فإنّ القادري شاعر وطني بامتياز، يدرك متطلبات المرحلة الجمالية، وليس متطلباتها السياسية والثورية فقط، ولهذا فإنّ شعره يذهب أبعد، كي يبلغ ما هو أعمق، من مجرّد كتابة قصيدة متقنة، ذات مواصفات عالية.
والحال أنّ أولى خيارات القادري الأسلوبية، في مقاربة «السياسي» و»الجمالي»، هي الابتداء أيضاً من تلك المقولة العتيقة التي تخصّ الشخصية الاجتماعية للمعنى عموماً، ولهذه الشخصية في لغة الشعر بصفة محددة: أنّ المحمول الدلالي للمفردات، حتى في جذوره المعجمية الأبسط، أو في تبدلاته الاصطلاحية اللاحقة، هو اجتماعي بالضروري، وبالتالي سياسي استطراداً لأنه يخصّ الحياة اليومية، والشقاء الإنساني، والوجود السياسي والميتافيزيقي على حدّ سواء. لهذا فإنّ لغة القادري تميل إلى اختزان محمولات المشهد، وليس التعبير عنها بلغة تقريرية، أو بمفردات سياسية دعاوية، أو حتى بنبرة كفاحية مباشرة؛ وذلك أياً كانت مقادير المشهد الانفعالية، وهل تسير مدلولاته نحو الفرح أم الترح، الأمل أم الألم، التسجيل أم التخييل، العالم المحسوس أم الذهني…
ورغم أنّ أي شعر يمكن أن يحمل رسائل سياسية، عن سابق عمد أو عفو الخاطر، فإنّ قصائد «قيامة الدمّ» لا تكتفي بتشديد رسالة، أو جملة رسائل سياسية، بل تختار الانحياز إلى قضية كبرى، هي انتفاضة الشعب السوري، وتجهد لتمثيل عناصرها في مستويات الإنسان والزمان والمكان؛ ولكن أيضاً في أعماق فنّية وجمالية تنصف الشعر في المقام الأوّل، وقبل درجات كثيرة تسبق البيان السياسي والتبيين الوثائقي وتلك مسائل ترسّخ معايير شعرية، صارمة بقدر ما هي مستحبة، وتصنع واحدة من أبرز الفضائل الفنية لهذه المجموعة الشعرية؛ كما تشدّد على القِيَم الأخلاقية الفريدة التي وفّرها شهداء اعتبرهم الشاعر «أرحب من القصيدة»، فكان أن اتسعت لهم قصيدته، رغم أنّ انتفاضة الشعب السوري، وما تلقاه سوريا من رزء مأساوي أقصى، هو عن الوصف ـ في أية عبارة، وأية قصيدة ـ إنما يضيق ويشقّ.
(*) فواز القادري: «قيامة الدم السوري». دار نون، رأس الخيمة، 2014

صبحي حديدي