الظاهر الملتبس في الهتاف الثوري – سمر يزبك

Article  •  Publié sur Souria Houria le 27 septembre 2011

في ما يبدو أنه استكانة للقدر وتجلياته، تنحو الانتفاضة السورية إلى ابتداع قاموسها الخاص المستمد من مورث شعبي، تعيد إنتاجه بفرادة قلّ نظيرها. وما يمكن الحديث عنه كثير في هذا المجال الذي قد يخيل لكثيرين أنه ارتداد ديني للشعب المتروك وحده لموت يحصده منذ ستة أشهر ونيف

والاستكانة القدرية التي تتجلى يوماً بعد يوم في حركة الاحتجاجات، لا تسعى إلى تطرف ديني بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما تبدو، في عمق ارتباطها بالذاكرة الجمعية والموروث الديني، كردة نحو بدائية مفرطة القوة، في الذهاب إلى أقصى درجات التحدي، بعيداً من منطق الفعل ورد الفعل، وإلى نزوع جماعي نحو الحرية، هو نزوع يائس من الحياة الواقعية، وحالم بحياة أفضل. وهذا نزوع مرتبط حكماً بالتربية الدينية وثقافة الاستعانة بالقوي الجبار الذي لا معين سواه

«يا الله ما إلنا غيرك يا الله»، وهتاف آخر «وهيه ويا الله وما منركع لـ الله»، وغيرها من الشعارات الدينية التي تطفو على الساحة في التظاهرات، وقد بدأت حركتها البيانية في التصاعد والتعاظم. هذه الصيحات المغنّاة وسط تشابك الخصور وتلويح الأيدي المشترك، في حركات جماعية منتظمة لا تخلو من طقس احتفالي مهيب، تحيل إلى الرقصات الجماعية التي كانت تقيمها التجمعات البشرية البدائية في رد لمواجهة أخطار الطبيعة والموت. كما تحيل تحديداً الى ما وصفه كلود ليفي شتراوس بالذاكرة الجمعية المتصورة لغريزة البقاء، عبر طقوس كرنفالية تختلف من عصر إلى عصر، ومن حضارة إلى أخرى، حيث نشأت من خلال طقوس محاربة الموت الجدات الكبرى لكل الاحتفالات والأهازيج الدينية والشعبية، والتي تحولت في التاريخ البشري إلى طقوس عبادة

وفي الاعتماد على الله، الذي بات السوريون لا يرون أملاً سواه في الهروب من الظلم، وفي قولهم «الله أكبر»، استعانة بالجبار المحاسب، وهو الله، على الظالم والقاتل، وهو النظام، حيث لا يملكون أمامه سوى تقديم صدورهم العزلاء وحياتهم طلباً لحريتهم. وإن أنكر البعض من مؤيدي الانتفاضة صرخات الاستغاثة الاحتفاليه تلك، وأحالوها الى رمز ديني محض يعاظم مخاوفهم، وبالتالي قد يؤدي بالانتفاضة إلى فخ السلفية الإسلامية، فهذه حالة أقل ما يقال فيها إنها قسوة بشرية، وضيق معرفة بالمجتمع السوري. وحالة الهتاف هذه تتقاطع إلى حد كبير مع الصورة التي بدت عليها حركة الاحتجاجات عندما خرجت من الجوامع، فظهرت وكأن التظاهرات إسلامية، في حين أن الواقع الفعلي لا يعكس ذلك. فالجامع هو المكان الوحيد المسموح به للناس بالتجمع من دون رقابة أجهزة الأمن (لاحقاً سيمنع الأمن المصلّين من الدخول اليه)

لا يمكننا مطالبة اليائس من الحياة بألا يتجه إلى سند له، وضمن مرجعية الثقافة الحياتية. فالسند الواحد الأحد هنا هو الله، وأصواتهم وحناجرهم التي يقتلعها رجال الأمن وشبّيحته بين وقت وآخر في دلالة رمزية لخنق أصواتهم، هي خير دليل

والصورة الأمثل لما يمكن الحديث عنه وسط التخوف المتعاظم مما قد تؤول إليه حركة الانتفاضة في حال استمر الوضع على ما هو عليه، تبدو مشروعة: فإصرار النظام على القتل اليومي، وعدم توحيد جبهة معارضة واحدة لملء الفراغ السياسي، هما الصورة التي سينتجها الشعب السوري بطريقته، وهي مفتوحة على احتمالات عدة. لكن، في هذا السياق تحديداً، أي مرجعية الهتافات الدينية، تبدو لكل شعب ثقافته ورموزه وأدواته التي لا يمكننا استبدالها بين ليلة وضحاها بمرجعيات حداثية غريبة عن واقعنا. والابتكارات التي لا يتوانى السوريون عن تطويرها في طريقة احتجاجهم، تنم عن أمرين: الأول انتماء حقيقي الى موروثهم الديني والشعبي، والثاني حس الحياة والانتصار لثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت. فالطبيعة التي تحتم على السوريين أن يدافعوا عن حياتهم كرد فعل غريزي على الموت ورغبة في البقاء، هي الدفاع عن أنفسهم بأي وسيلة تردُّ عنهم موتهم، هذا أضعف الإيمان في حال تُركوا للطبيعة الأم، لكن السوريين يستعيضون عن القتل والسلاح باحتفالات جماعية ذات طبيعة احتفائية، مصحوبة بالدعاء والاستعانة بالله. وهذه الاستعانة، حتى وإن بدت في وجهها الظاهر استكانة قدرية، فهي تشبه وإلى حد بعيد الالتفاف عليها. فتسليم الأمر لله هو تجاوز البشر والذهاب الى الأقصى في مواجهة الموت، أو ما يمكن القول عنه بنفي النفي. الله وحده يأخذ الأرواح، أما البشر فلا خوف منهم، مثل أقصى نقطتين في دائرة، بعيدتين من بعضهما بعضاً، لكنهما تلتقيان في الإحداثيات نفسها ضمن هذا البعد

«يا الله ما إلنا غيرك يا الله»، هو القول الموجّه الى النظام السوري، على طريقة السوريين الخاصة، بدينهم  ومعتقداتهم: لم يبق لدينا ما نخسره، نحن ضدك حتى الموت

الحياة – ٢٧ أيلول ٢٠١١

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/311728