العالم والمستبد – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 29 mai 2012

 » (…) وفي اللحظة التي كنت أنهض بها نلت ضربة قوية على قدمي من فوق الحذاء وسمعت عنصر الأمن الذي ضربني يصرخ بسخرية ماجنة: دكتور! دكتور وما (لا) بتعرف تركض؟ وأنا أجرجر قدمي المتورمة استرجعت الجملة الأخيرة، الجوهرة التي نطق بها عنصر الأمن العظيم. ظل الخشبة المرفوعة بيده. والتي لولاها لما كان له أي ظل على الأرض، وانتبهت كم جامعة السوربون التي قضيت سنوات كثيرة من عمري أجتهد فيها لأحصل على شهادة علمية مشرفة.. كم هي سخيفة وتافهة ولا قيمة لها لأنها لم تعلمني كيف أركض أمام عنصر أمن، ظل خشبة على الأرض »

إنها شهادة من صديق مثقف سوري كبير تعرض لعسف عنصر الأمن « ظل الخشبة على الأرض » بعد مشاركته في وداع جثمان صديق فنان قتل عقاباً على جرعة الاحتجاج العالية التي حملها فنه وفن من حوله ضمن « فعاليات » الثورة السورية. شهادة باحث مرموق عرف العسس بأنه « دكتور » وتأكدوا لاحقاً، ومن خلال التجربة، بأنه لم يتعلم الركض أمام غضبهم وبسطارهم

إن علاقة السلطة بالمثقف والمثقفين ترتبط بتاريخ عريق من الحقد والكراهية التي اعتمرت صدور الحكام ومن لاذ بهم من الحواشي. والذين يعتبرون بأن عدوهم الأول هو الشعب، وبالتالي فوعيه وتمكنه من العلوم الإنسانية تودي بأحلام السيطرة عليه وتطويعه إلى التهلكة. وكما قال عبد الرحمن الكواكبي في كتابه عن طبائع الاستبداد منذ نيفٍ ومائة عام، فإنه « لا يخفى على المستبد مهما كان غبياً أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل وتيه عماء »

فالمسبتد رئيسا كان أم ملكاً أو أميراً، يسعى إلى أن يعمّ الجهل في العقول مما يودي بالناس إلى التطرف في الفكر وفي الممارسة ويكونون أمامه لقمة سائغة من خلال منظوره لإدارة شؤون البلاد المرتبط أولاً وأخيراً بالذهنية الأمنية القمعية. فالجاهل يفقد كل حجة أمام العالم بأمور دنياه وحاجاته ونواقصه وآماله وتجارب الشعوب الأخرى وتاريخه. أما مواجهة المتعصب المتقوقع في أفكارٍ ظلامية، فمتاحةٌ أمام المستبد الذي نشأ على تقمّص العنف كعقيدة واتبعها كممارسة تساعده على بسط هيمنته

انطلاقاً من هذا الموقف العصابي تجاه العلم والعلماء، جهدت السلطات المستبدة في الإساءة إلى الحقل الأساسي في بناء المجتمعات وهو حقل التربية والتعليم. وقد جرى عمل ممنهج في هذا الاتجاه مما جعل مستوى المدارس والجامعات في الحضيض وجعل من مهنة المعلم والأستاذ في أدنى السلم الاجتماعي والاقتصادي

وعلى الرغم من أن الكثير من الأحزاب التي ادعت التوجه الاشتراكي للوصول إلى الحكم، استندت في قواعدها على طبقة المعلمين والمتعلمين، إلا أنها ما لبثت أن شعرت بخطرهم كما شعرت بخطر الجيش، فعمدت إلى تهميش فاعليتهم ودورهم، وأطّرتهم ضمن منظومات بيروقراطية وأمنية

ومن جهتها، قامت الحكومات ذات المرجعية الدينية، بتقييد العلم والبحث العلمي واعتبرتهما حصراً على الأمور الشرعية وذلك على حساب العلوم الإنسانية التي تحفّز الذهن والمراجعة النقدية، مما يشكل بالنسبة لبعض المتعصبين خطراً ماحقاً على حسن سير « الدعوة ». والكواكبي يقول في هذا بأن المستبد « لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد والمختصة بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة و لا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور مأخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر »

وقد أثبتت النظم المستبدة في مختلف الدول العربية أن علاقتها إشكالية وتكاد تكون صدامية مع الفكر والمفكرين والعلم والعلماء. ومارست سياسات تهميشية وتجهيلية ممنهجة أدت بأجيال كاملة إلى فقدان العلاقة المطلوبة والمحبذة مع الفكر الإنساني. ويكفي النظر إلى مقارنة مستوى التعليم العالي في هذه الدول بنظيره في الدول الصاعدة أو دول العالم الثالث الأخرى التي نجحت، وعلى الرغم من مصاعب اقتصادية جمة، في أن تعطي العلم مجالاً واسعاً في إطار سياساتها العامة. وقد ارتبطت هذه الآلية أولاً وأخيراً بطبيعة نظام الحكم ونسبة الحرية الكامنة فيه

في مناخ من القمع والإقصاء والتخوين، جهد الفكر العربي في إيجاد منافذ تنفس حرمته منها أنظمته الاستبدادية التي لم يشارك البتة في اختيارها. وعلى الرغم من أن البعض من المفكرين وأنصاف المفكرين ساهم، مرغماً أو سعياً نحو جاهٍ ومرتبة، في إطالة عمر المستبد وفي الدفاع عن أفعاله وتبريرها وفي إيجاد الصيغ « الثقافية » للعقلية التي تقود ممارسات القمع، في إطار العلمانية أحياناً أو في إطار الأصولية الدينية أحياناً أخرى، إلا أن الغالب الأعم من المفكرين وجدوا أنفسهم في هامش المجتمع

وشكلت هجرتهم إحدى أهم ظواهر الوضع العام في البلاد العربية. فإن لم يهمشهم العقل السياسوي الأمني الحاكم، واجهتهم قوى ظلامية متجبّرة، وجدت لها مساحة عمل في إطار النظم القمعية في سعي مشترك للسيطرة على المحكوم. وما زال الصديق الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد علماً من أعلام الفكر النيّر ورمزاً لضحايا العقلية الإقصائية المتخلفة التي تحابّت وتزاوجت مع السلطان في الكثير من الحالات. وأدى زواج « المتعة » هذا إلى صحرنة المشهد الفكري العربي ودفع أبرز ممثليه الذين استطاعوا إنقاذ أنفسهم من القولبة ومن الاستقطاب، إلى الهجرة أو العزلة

إضافة، فقد ترافق إفقار المشهد الفكري مع إفقار العمل السياسي في أغلب الحالات، وهو الشيء الذي سعت إليه أغلب السلطات الحاكمة. وأدى تأميم المجتمع السياسي والمجتمع المدني إلى حصر العمل السياسي في إطاره الأمني. وساهم الحد من حرية التعبير في إبعاد الفكر عن جمهوره المستهدف وصارت وسائل الإعلام أبواقاً تشوه الحقيقة وتنشر الكذب والرياء، وصارت الثقافة مرتعاً لأخصائيي مجلات الحائط المدرسية ذات المستوى المتدني، وساهمت المراكز « الثقافية » كما « العلمية » في زيادة التخلف الفكري والنقدي لدى أجيال من المجتمعات الضحية

فهل بعد هذا كله، يفاجئنا وقف عنصر الأمن من « الدكتور » الصديق؟ وهل هذا التصرف الذي يترافق مع سياسة ممنهجة من القمع بكل أبعاده هو مرتبط حصراً بالمستوى المتدني لظل الخشبة هذا على الأرض؟ أم أنه نتاج عمل « مجهد » أُسّس له منذ عقود وجعل من المثقف النقدي الحر ألد أعداء الاستبداد؟

فإن كان عبد الرحمن الكواكبي يعتبر بأن المستبد ترتعد فرائضه « من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، وحقوق الأم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية والتاريخ المفصّل والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ »، فما بالك بحواشيه؟

http://www.djazairnews.info/trace/37-trace/39370-2012-05-28-17-07-19.html

 Date : 28/05/2012