العلاج النفسي للضحية وللجلاّد – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 15 février 2012

تنتشر في الدول المتقدمة وحدات متخصصة للعلاج النفسي المستعجل والتي تستنفر في حالات عدة تقع فيها أحداث متفاوتة الأهمية لمواكبة الضحايا على مختلف درجات إصاباتهم الجسدية أو النفسية· وتعتبر الحالات التي تستوجب مثل هذه المتابعة الإسعافية متنوعة ومتدرجة الخطورة

وفي أوروبا مثلاً، أصبح من المعتاد أن نسمع أو نقرأ أو نشاهد في وسائل الإعلام المختلفة أنه قد تم تكليف معالج نفسي، أو وحدة علاج نفسي، بتأطير طلاب مدرسة تعرضت إحدى زميلاتهم إلى الاغتصاب أو أحد زملائهم إلى الاعتداء الجسدي أو حتى، انهار جزءٌ من سقف القاعة التي كانوا يقدمون فيها الامتحان، فأحدث لديهم صدمة نفسية تتوجب المتابعة والمعالجة· ويمكن لحادث سير نجم عنه ضحايا بشرية أو حتى لم ينجم عنه ضحايا، أن يحظى باهتمام وحدة المتابعة هذه والتي تنتقل إلى عين الحدث وتتصل بمن كان حاضراً لتحصل منه على شهادته ولتتبين بوضوح مدى تأثير هذا الحدث على نفسية المستجوب وتوازنه، وتقدم له النصح في أفضل الطرائق المساعدة على الخروج من هذه الأزمة

ولقد شهدنا نشاطاً ملفتاً لمثل هذه الاختصاصات بالتوازي مع المعالجة المباشرة لنتائج الكوارث الطبيعية التي حلّت ببعض الدول الغربية من زلازل (إيطاليا) أو فيضانات (فرنسا) أو إنفجارات في مفاعلات نووية أو مصانع كيمائية (فرنسا) أو جرائم كبرى (النرويج)

كما أنه يمكن لوحدات العلاج النفسي أن تتحرك بشكل إسعافي في الحالات الطارئة والحوادث، فيمكنها أيضاً أن تتشكّل بهدوء لمتابعة قضية تحتاج إلى الرويّة والتأنّي في علاجها، والمتابعة المستمرة على مدة مفتوحة من الزمن· وأحياناً، وربما غالباً، تظهر عوارض التأثّر النفسي على الضحايا أو من شهد الحادث أو حتى من كانت له علاقة قربى أو صداقة بضحايا الحادث، بعد فترة من وقوع الأمر· وبالتالي، تستوجب هذه الحالة أن تتحرك وحدة المعالجة النفسية وتتابع القضية بالاستناد إلى تقارير الزملاء ممن تابع الحدث حين وقوعه وعالج الضحايا المباشرين له

وتبالغ أحياناً وسائل الإعلام الغربية، في سعيها إلى الاستحواذ على نسبة متابعة عالية، في طرح الجانب النفسي لبعض الحالات وتخصّص لها حيّزاً هاماً من الوقت الأساسي لمتابعاتها الإخبارية· ويقوم الإعلام بلقاء المعنيين ومناقشتهم وتخصيص البرامج والملاحق والأعداد الخاصة للإحاطة بالأبعاد العلمية والإنسانية والسياسية، بل وحتى الاقتصادية، للحالات المُتابعة أو المُعالجة· ويصبح المعالجون النفسيون، أكثر من الضحايا أنفسهم، نجوماً وتصبح مشاركاتهم في البرامج الحوارية أساسية ولا مناص منها

والنشاط الآن محموم حول ضحايا أو أهل ضحايا السفينة التي جنحت أمام شواطئ إيطاليا، وأصبح الناجون، وهم الأغلبية من الركاب، موضوعاً إعلامياً أساسيّاً وأصبحت انطباعاتهم وتحولاتهم النفسية وكوابيسهم زاداً يومياً لمتابعي نشرات الأخبار في الدول التي ينتمي إليها الركاب متعددي الجنسيات

في هذا الجو  »الصحّي » الذي تختلط فيه رغبة صادقة من قبل أجهزة المساعدة الاجتماعية والصحية في البلاد المتقدمة سعياً إلى الحفاظ على الصحة النفسية لرعاياها، والتي هي جزء لا يتجزأ، في العرف الطبي، من الصحة العامة التي ينظر لها ليس فقط على أنها موضوع صحّي بحت بل يُعطى أبعاده المتشعبة وحيث يبرز البعد الاقتصادي كأحد العوامل الأساسية، نتساءل عن موقع الشعوب التي تسكن أقطارنا من هذا  »الاقتصاد الصحي » المتطور أو هذا  »العلم الصحي » المتشعب؟

لقد عرفت المنطقة العربية، كما غيرها، كوارث طبيعية عدة ومتفاوتة الأهمية، وحصلت الزلازل والفيضانات والحروب والاحتلال في غالبها· وإضافة إلى غضب الطبيعة، الذي تدعّم بوجود بنية تحتية متهالكة وعمليات إنقاذ شابتها الملاحظات والانتقادات في غالبها، عرفت شعوب المنطقة أيضاً وخصوصاً كوارث من عمل الإنسان  »المتحضّر » حيث خرجت الألوف في العراء للهروب من قصف همجي لقوى غازية كما في لبنان أو في العراق· وخضعت شعوبها إلى أشكال من الاجتياح والتهجير القسري واللجوء كما في فلسطين· ولم يتم بالطبع القيام بأي عمل منهجي لمعالجة نتائج هذه الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية التي حلّت بالإنسان في هذه الأوطان· وانعكس ذلك على مجمل الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لمن يحمل آثار هذه الوقائع وما أكثرهم· وجرى الاعتماد بشكل محوري على المرجعيات الدينية والروحانيات في سبيل معالجة ما يمكن معالجته من آثار هذه الكوارث والأحداث، مما أدى إلى زيادة التديّن المجتمعي غير الواعي أحياناً، وتعزيز فرص سيطرة رجال الدين الرسميين وغير الرسميين، العالمين والجهلة، على شرائح مجتمعية كبيرة· وقد انعكس ذلك في الممارسات الاجتماعية والثقافية لأجيال بكاملها

في  »أتون » الثورات العربية والانتفاضات الشعبية، تُعدُّ الضحايا المباشرة وغير المباشرة بالآلاف، والمشاهد التي تنقلها وسائل الإعلام الحديثة تصيب أجيالاً بكاملها نفسياً ومعنوياً وأخلاقياً· القتل المستمر في أكثر من بلد عربي من قبل نظامها السياسي، هتك الأعراض الموثّق بشهادات عدة، الدمار الواقع على الحجر وعلى البشر، الاعتقالات التعسفية وروايات التعذيب التي تكشف عن نفسيات غير بشرية، وغير حيوانية حتى، تمارس شتى صنوف الإهانة للجسد الحي والميت، تدفع للتساؤل عن النتائج الكارثية التي ستتبلّور بعد سنين وتتوضّح آثارها في شتى مجالات الحياة

العلاج الوحيد القائم الآن هو عبر العمل الأدبي والفني، وربما هو نافذة التعبير الوحيدة التي يستطيع من خلالها بعض الأشخاص  »القادرين » أن  »يعالجوا » ذاكرتهم وأن يخرجوا من صقيع نسيان الحدث· وعلى أهمية دور الرواية والقصة والسرد التاريخي والرسوم والموسيقى والأفلام، يبقى الضحية العادي البسيط متروكاً لمصيره البائس، لا متابعة له ولا علاج· سينمو الأطفال بذاكرة مليئة بالمشاهد المروعة من أشلاء ودماء، ستظهر أجيال مصدومة نفسياً وبحاجة لعلاج ومتابعة في ثقافة لم تؤمن بعد بأهمية علم النفس أو طب النفس أو تحليل النفس· وبالمقابل، الجلاّد والقاتل والمعذّب والمُنتَهك والسارق والمُغتَصِب، سيكون هو أيضاً بحاجة للعلاج النفسي، في ظل عدالة انتقالية شفافة الممارسة· ربما

الجزائر نيوز – الثلاثاء، 14 فبراير 2012

http://djazairnews.info/analyse/38-2009-03-26-18-28-54/34964-2012-02-14-17-10-13.html