العنف المؤسساتي والسلم العنيد في سورية – سمر يزبك

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 octobre 2011

لا يمكن الإشارة إلى العنف والسلم في الحالة السورية ضمن دلالات شائعة. فالتجاوز والتطرف في كلتا الحالتين له ما يسوغه ويبرره، داخل بنية نظام قمعي، وعند شعب ماضٍ في نيل حريته على رغم كل صنوف العنف المضاد لإرادة سلمية تصرّ على الحياة، حتى عبر احتراف الموت

وفي تعريف العنف المتنامي الذي ينتهجه النظام السوري، يبدو من الصعب الحديث عن نظام سياسي يتخذ منهجاً مدروساً في ضرب مفاصل القوة داخل حركة الاحتجاج، وليس من المعقول القول عن مجموعة قرارات مافوية عائلية إنها تستند إلى بنية نظام متكامل. فهذا النظام لا يعتمد خطة معينة في عملية القمع، وإنما يمارس قتل المتظاهرين العزّل، والاعتقال، والتعذيب، والتصفية الجسدية تحت التعذيب، وتشويه الجثث، وقصف المدن وحصارها، واستخدام الطيران الحربي بخاصة في المدن التي يحصل فيها الانشقاق العسكري، كما حصل في الرستن أخيراً. ردود الفعل هذه صدرت عن النظام منذ بدء الانتفاضة وتواصلت طوال الأشهر السبعة، إلا أن مأسسة العنف أضيفت لاحقاً

لا تتناقض صفتا «الأهوج» و «الممنهج» بالنسبة الى آلية العنف، ولكنهما تتكاملان وتتواشجان لحماية النظام، بخاصة بعد عودة أسماء معروفة من الحرس القديم، الذين رعوا في الثمانينات مرحلة الاستبداد الأمني المطلق، في فترة تنفيذ المجازر الجماعية التي سبقت وتلت المجزرة الأفظع والأكبر في مدينة حماة

لكن هذه المنهجية التي يظن الكثيرون أن الآلة الأمنية تتخبط بتطبيقها، استجمعت عناصرها خلال الأشهر الماضية، لتعيد تشكيل بنية جديدة في آلية القمع، توحّد رموز الحرس القديم الذين شكلوا الفريق الأمني الضيق للأسد الأب، مع الرموز الامنية «الشابة» التي صعدت مع الأسد الإبن، وبخاصة بعد الانسحاب العسكري من لبنان، وإبعاد أو تصفية شخصيات أمنية مخضرمة مثل غازي كنعان. كلتا الجماعتين تشتركان في الولاء للنظام باعتباره سنداً أساسياً لوجودها الاستثماري المالي، القائم على الفساد. وهي مجموعة ينتمي أفرادها إلى طوائف وأديان مختلفة، على رغم أن الكتلة الأقوى في صفوفها هي تلك النخبة التي يشرف على انتقائها ماهر الأسد شقيق الرئيس، وغالبيتها من أبناء الطائفة العلوية، وهي التي تنشط أكثر في سياسات التجييش ذي البعد الطائفي والمناطقي

توحيد هاتين المجموعتين أوجد آلة عنف تشتغل مسنناتها على كل الأطراف، وتستند إلى تخطيط إجرامي لا يتعدى حدود عقل العصابات، مثلما حدث في عملية اغتيال الناشط الكردي مشعل التمو، أو في تشكيل «جيش ظلّ» قوامه ما يُسمى «الشباب العقائدي» برعاية الأجهزة الأمنية وإشرافها. هنالك مجموعات عدة، يبدأ عمل بعضها من إدارة المواجهات على الإنترنت واختراق المواقع المعارضة (وهذا هو «الجيش الإلكتروني»!)، وتنتهي بالتدريب على السلاح وحمله في شكل سافر، بحيث يتم تحويل ظاهرة التشبيح من حالة فردية إلى حالة مؤسساتية، الأمر الذي سيشكل خطورة كبيرة في المدى البعيد على تماسك مكونات المجتمع السوري. فبعدما أعلن في دمشق عن تأسيس «منظمة شباب الوطن» في 17 أيلول (سبتمبر) الماضي، بدأت المرحلة الثانية بتدريب أفراد هذه المنظمة على استخدام السلاح وليس حمله فقط، في صفوف ما سُمّي «فريق دمشق التطوعي». بيان تأسيس هذه المنظمة يدعو إلى «حماية أمن الوطن ضد أعدائه»، بخاصة بعد أن اكتشف هؤلاء الشباب أن المواجهة الإلكترونية لم تعد تجدي نفعاً. وفي البند الأول من النظام الداخلي للمنظمة، جاء أن قيامها انبثق من ضرورة الاستعانة بالشباب إلى جانب الجيش ورجال الأمن، للحد من التظاهرات. وبين أهم أهدافها فضح التنسيقيات التي تنظم التظاهرات وإفشال عملها وفضح اتصالاتها الخارجية، وتنظيم وحماية وتأمين المناطق التي يطهّرها الجيش والأمن من المسلحين المزعومين لمنع عودتهم إليها

ميدانياً يتم توزيع هؤلاء الشبان على الأحياء، ضمن مكاتب ترتبط مع باقي المدن الأخرى، تُعهد إليها أيضاً مهمة «فضح» المتظاهرين ومقاطعة أهلهم اجتماعياً، والتشهير بهم عبر الإنترنت وعبر التلفزة الموالية، ولا تتورع المنظمة عن التوجه بخطابها إلى الشعب طلباً لمساعدة الأهالي بهدف «القضاء على المؤامرة»، ومناشدة الناس أن يتحولوا إلى مخبرين من أجل خدمة الوطن

«فريق دمشق التطوعي» يكمل الوجه الآخر للمهمة، أي مأسسة مظاهر حمل السلاح في شكل علني وسافر، من طريق استحداث فرع أمن خاص بالشباب فريد من نوعه، ينتشر في الشوارع والمدارس والجامعات، ولدى أفراده ما يلزم من تصاريح تخولهم الصلاحيات نفسها التي تتمتع بها فروع الامن الرسمية. ولكي تستكمل هذه الخطوة أهداف عسكرة المجتمع في شكل مباشر، يجرى إطلاق مواقع على الإنترنت لتشجيع نشر الصور التي تظهر هؤلاء الشباب وهم يتدربون على إطلاق النار، ويتباهون بحمل الرشاشات، وتُبحّ حناجرهم بالهتافات الموالية للنظام، ولشخص الأسد، وشخص شقيقه ماهر

يصعب القول إن مأسسة التشبيح كظاهرة يمكنها أن تتوقف عند حد، فهي النواة التي يريد النظام اعتمادها في الداخل، كلما استشعر أن أوراقه الخارجية تتهاوى أو تحترق، وكلما أبطل الحراك الشعبي أي «ورقة أخيرة» يلوح بها، ثم يلجأ إلى سواها بعد فشلها، وتكون أكثر توحشاً وعنفاً. وعجز النظام عن اصطناع «حرب أهلية» على رغم كل مظاهر العنف الهادفة إلى تأليب الطوائف على بعضها بعضاً (خطف الفتيات واغتصاب بعضهن، تشويه الجثث عن عمد، اغتيال شخصيات علمية من طائفة معينة) هو ما دفعه إلى مأسسة ظاهرة التشبيح، ضمن توجه إلى توحيد الشباب مع أفراد الحرس القديم

وضمن آلية القمع الذي يُنظم ويُمأسس، وباستثناء حالات فردية قليلة يتم فيها الدفاع عن النفس، وحالات الانشقاق في الجيش والتقاتل بين الموالين والمنشقين، يبقى خيار السلم الأهلي العنيد هو شعار السوريين، وهو المعجزة التي تمكّنهم من مواجهة العنف المؤسساتي الوحشي، على رغم أن مساحة التسامح تضيق بفعل المبادرات غير المسبوقة في التخطيط الإجرامي لنظام غير آبه بما ستؤول إليه حالة المجتمع. وهذا النظام يؤكد القاعدة ذاتها التي انتهجها منذ البداية في قمع الشعب: إما الاستبداد والفساد والحكم العائلي المافيوي، أو خراب وطن جميل عريق اسمه سورية

الحياة – الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

http://international.daralhayat.com/internationalarticle/319576