الفصل في الفصائل – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 8 mai 2017

الفصل في الفصائل 5 أيار / مايو، 2017التصنيف  

في الحديث إلى وسائل الإعلام الدولية، يحرص كثير من المحللين -سوريين وعرب وغربيين- على التحدث بدقةٍ، عند التعرض إلى تصنيف القوى المتحاربة على أراضي سورية في المقتلة القائمة، منذ خمس سنوات على الأقل، إذا نحن اختصرنا السنة الأولى من الحراك التي تُعدّ سِلمية، وإن تخللتها مواجهات دموية، كان مصدرها الرئيس عسف النظام. إذًا، استطاع المتخصصون من غير أصحاب الاصطفافات الأيديولوجية أو الطائفية أو الاستبدادية، على تنوعاتها وتجلياتها، أن يُميّزوا بين جماعات إرهابية من داعش والنصرة ومن لفّ عمامتهما، وبين مجموعات الجيش الحر، وبين المجموعات المقاتلة ذات الميول الدينية المتشددة ولكنها صاحبة “مشروع” وطني، وبين الميليشيات الطائفية الأجنبية العاملة والقاتلة على الأراضي السورية من لبنانية وعراقية وإيرانية وباكستانية وأفغانية… ومن قوات مسلحة سورية ومن مجموعات الشبيحة الوطنية على مختلف تلاوينها وانتماءاتها وانتفاعاتها.

مع تفاقم الأحداث، تطورت التسميات والاصطفافات، واختلطت، واتُخذ سريعًا قرارٌ دولي أفضى إلى إجهاض الجيش الحر، ساهم، في إنجاحه والإسراع بتنفيذه، تعاونٌ حثيث من معارضة سياسية ضعيفة ومليئة بالتناقضات، وقد دعمته استقطابات إقليمية -مالية وسياسية وعسكرية- لم تسعَ، في يوم من الأيام، لإنجاح ثورة سلمية -أيّ ثورة- تسعى لتحقيق مبادئ العدالة والتحرر، حتى لا تكون مثالًا يُحتذى لدى شعوبها الخاضعة كليًا أو جزئيًا، كما أنها اشتُهرت تاريخيًا بمعاداة التحولات الديمقراطية والمدنية في أقطارها أو في أقطار نفوذها.

مع شبه زوال الجيش الحر، إلا في حدوده الدنيا المصرّح بها، عاثت الفصائل الأخرى في المشهد السوري استنادًا إلى شرعيةٍ، اكتسبها بعضها عبر تمثيل القوى المجتمعية المحلية والتعاون معها من خلال المجالس المحلية والدفاع عن مصالحها والسعي إلى حماية أرواح المواطنين الخاضعين لسلطتها. ومن جهة أخرى، تعاملت فصائل أخرى مع مناطق سيطرتها على أنها أراضٍ محتلة بمالها وحلالها وناسها. وتكررت التجاوزات الأخلاقية والإنسانية التي تلطّت غالبًا بلبوسٍ ديني شرعنته، من خلال تسمياتها المرجعيات الدينية المدفوعة الثمن، كما شجعتها هلامية مواقف كثيرٍ من رجال الدين ذوي السلطة الأخلاقية الذين كان بمقدورهم أن يمارسوا نوعًا من الضغط المعنوي في أقل تقدير، ومن جهة أخرى، ساهم بعضٌ ممن تعاقب على الهيئات السياسية من قيادات، في تبرير هذه التجاوزات أو حتى في الدفاع عنها. وأخيرًا، وليكتمل المشهد العبثي، تخرّجت هيئات قضائية/ جاهلية نجمت عن دورات تدريبية خلّبية صادق –مع الأسف- على شهاداتها بعض الرموز السياسية/ الدينية عن حسن نية أو عن سذاجة فقهية.

نشأت من ثمّ محاكمُ مكوّنة من جهَلة متعممين، قضوا في أمور الناس وقضوا على حقوقهم بمسميات شتّى. وقد حاز هؤلاء “الشرعيون” غير الشرعيين على حماية مسلحة لتطبيق أحكامهم المجحفة والمثقلة بالفساد الفكري والمالي؛ فنشأت مناطق تسمى “محررة” عند البعض، ويجدر توصيفها علميًا بأنها “خارج سلطة النظام”؛ لأن التحرّر يكون من الاستبداد، ولا يمكن أن يكون من تحت الدلف إلى تحت المزراب. أي أنه لا يمكن أن يكون من سطوة سلطة مستبدة لا شرعية لها، مارست العسف بحق جموع الرعايا -الذين لم يكونوا يومًا مواطنين- إلى سلطة مجموعات، لا مبدأ لها سوى الغنيمة وفرض رؤية ظلامية، تنبثق من فهمٍ أعوج للمبادئ الدينية مهما اختلفت الاجتهادات بحقها.

ومما زاد الأمور سوءًا، أن هذه الفصائل التي تسيطر، بقوة السلاح أو بحكم الأمر الواقع، على مساحات من الأرض السورية، باعت واشترت بتضحيات حقيقية وأخرى وهمية للحصول على “الإذن” الشعبي في بقائها، وفي استفحال ممارساتها التسلطية والمالية. ووصلت أمور الصراعات ما بين الفصائل على أمورٍ، لا تعني الحَراك الثوري ولا حتى حقوق من هم في ظل حمايتها من مواطنين، إلى أن تفتح جبهات قتالية تمارس من خلالها أسوأ الانتهاكات.

في أحد اللقاءات، حول إصلاح القطاع الأمني في مستقبل الدولة السورية، تُطرّقَ إلى أن التعذيب لا يمكن أن يكون وسيلةً للحصول على اعترافات جرمية، وأن الوسائل الحديثة التي تنهى عنه تحصل بشكل أكثر فاعلية على تلك الاعترافات. أثار هذا النقاش حفيظةَ بعضٍ من القوى الأمنية المنشقة التي لم يرغب ممثلوها بالاقتناع بأن المتهم يمكن أن يُدلي بأقواله من دون ضغط جسدي، وقد وافقه أحد ممثلي “الفصائل” على أن “عناصره” لا يتمكنون من الحصول على معلومات تفيد “الثورة” من دون العنف الجسدي. هي ثقافة مترسّخة إذًا، ويساهم في ديمومتها ممارسات سياسية غير ناضجة، لا تريد إلا أن تمارس النفاق لبعض المجموعات المسلحة، فتعدّ حينًا أن بعض الفصائل الأكثر راديكالية الفكر وإرهابية الممارسات هي مكون أساس من مكونات “ثورتها”.

تتقاتل هذه الأيام فصائل مسلحة في ريف دمشق على الأنقاض، وتمارس بحق بعضها البعض أشنع الانتهاكات؛ في حين تعاني المجموعات السكانية -التي لم يعد من الممكن تعريفها بأنها مواطنة أو رعية- من الاقتتال الداخلي ومن القمع المتجدد، ولا يجد السوريون ملاذًا بين قتلة حكوميون وقتلة عصاباتيون إلا السعي للخلاص بمختلف السبل. تكاتف الأشرار الخارجيون والداخليون على ثورة يتيمة، وتخلّصوا من بشائرها وأعانوا أعداءها عليها. كما خانها جزءٌ من ناسها وساهموا في الانتقاص من شرعيتها المبدئية. إن القضاء المستقل الذي سيُمارس، عاجلًا أو آجلًا، عدالةً انتقاليةً في المستقبل السوري، لن يستثني منهم أحدًا.