اللاذقية تحت النار: لن يفلح المهاجمون! – علي صادق

Article  •  Publié sur Souria Houria le 17 août 2011

قصف اللاذقية من البحر، كان بمثابة هجوم مدفعي وصاروخي، على بعض المحبّب والجميل، من ذكرياتي الخاصة. ولمناسبة القصف، استميح قارئي عذراً، كوني أعرض حكاية تعرفي الشخصي، على اللاذقية، أرض أوغاريت، التي اخترعت أتم وأهم أبجديات الكتابة في التاريخ القديم.

هناك أمران، جعلاني أحس بألم استثنائي، من جراء قصف « الأسديين » الفاجرين، لأحياء المدينة التي أحببت. الأول هو أن إقامتي في المحافظة، كانت على ذمة سلاح البحرية السوري نفسه، الذي استخدمه هؤلاء الحاكمون، في القصف. فقد كنت ضمن عناصر دورة المغاوير البحرية الأولى، في عام الف وتسعمئة وخشبة، أتدرب على أيدي إخوتنا الضباط السوريين، في قاعدتنا الصغيرة البديعة، على الشاطىء الصخري المتعرج، غربي بلدة برج سلام، شمالي اللاذقية. أما الأمر الثاني، الذي زاد القصف إيقاعاً للألم الاستثنائي في نفسي، هو التعرض بالنيران من البحر، لحي الرمل الفلسطيني الذي كنا نسميه المخيم، تمييزاً له عن حي الرمل الشمالي في اللاذقية. وبالطبع كانت لنا في المخيم، ومع أمين سر حركة « فتح » فيه، المرحوم غالب عويس « أبو نزار » الذي رأينا فيه بمثابة الأب للشباب؛ أيام وسويعات حلوة وواعدة، انتعشت فيها الآمال وغابت الكوابيس!

* * *

سورية الصامدة المقاتلة آنذاك، ونظام الحكم الزاهد فيها، ورأسه الطبيب الحمصي المناضل المرحوم نور الدين الأتاسي؛ كانت ساحة تحشيد وتدريب وتجييش وشحذ للمعنويات. فالنصابون الشافطون لخيرات البلاد، الذين أذلوا الشعب وما زالوا يهجمون عليه، عاشوا طويلاً على سمعة سورية في تلك الأيام، وخلعوا على انفسهم كذباً، الصفات نفسها التي تحلى بها الزاهدون الذين تعرضوا لغدرهم ولانقلابهم، ومن بين هؤلاء صديقي فيما بعد، د. إبراهيم ماخوس، الذي شغل منصب وزير الخارجية ونائب رئيس الحكومة. فقد ذكر لي ماخوس، إن رواتبهم أثناء وجودهم في السلطة،لم تكن تغطي مصروفات منازلهم التي يؤمها بكثافة ذوو الشكايات والزائرون، لذا كانت عائلاتهم في « الضيعات » ترسل الى الأبناء الذين يحكمون البلد بنظافة يد، مؤونة من خيرات الريف، تساعدهم في تغطية حاجيات الشهر. وبالطبع كان ذاك، طراز مختلف تماماً من رجال الدولة. فعندما انقلب الأسد على مجموعة رفاقه وزج بمعظمهم في السجن، بمن فيهم المجاهد الأتاسي رئيس الدولة التي قضى بقية عمرة رهن الحبس؛ لجأ البعض ومن بينهم ماخوس الى الجزائر. وكان لمجموعة الأطباء السوريين الذين تطوعوا في الثورة الجزائرية في العام 1958 وعلى رأسهم الأتاسي، الحق في الامتيازات التي توفرها الجزائر المستقلة لمجاهدي الثورة التحريرية، وذلك فضلاً عن حق اللاجئين السياسيين في الحصول على امتيازات. إلا أن ماخوس شَمّر عن ساعديه والتحق بمستشفى مصطفى باشا الشعبي، في وسط العاصمة، لكي يعمل كطبيب يداوي الجماهير التي أحبها، لا الجماهير التي أراد ان يستعبدها لكي يجعلها تنسى الله فتسجد له ولأبنائه من بعده. فأنموذج الأسد، الذي قفز بالانتهازية وبامتطاء الحزب، وعلى حساب زملائه الطيارين، من رتبة رائد الى رتبة لواء في يوم واحد، ومن قائد قوى جوية الى وزير دفاع بعدها بعامين، ليس صاحب سيرة ملحمية ذات مناقبية عالية تستحق التبجيل، كسيرة المرحوم نور الدين الأتاسي. ولعلها من كبائر الزمن وسخرياته المريرة، أن مزاعم الأسديين حول أحقيتهم في الحكم، تجعلهم يذبحون الناس بالجملة، لكي يستمروا حاكمين مستبدين لا يغيّرون ولا يبدلون!

* * *

في ذلك المناخ النضالي السوري، توجهنا الى اللاذقية في يوم ربيعي. كان الطريق طويلاً، لكنه ذا علائم وتضاريس مدهشة، بخاصة كلما كنا نقترب من الساحل. ولا أبالغ إن قلت، إن اللاذقية من المدن التي يحبها المرء من اول نظرة. فهي تقوم على شبه جزيرة طبيعية، إذ يحدها البحر من الغرب ومن الشمال. وينفتح حضن اللاذقية من الطرف الجنوبي سهولاً ومرابع وقرى زراعية تمتد الى تخوم « جبلة » بلد المجاهد عز الدين القسام. كانت وجهتنا الى قاعدتنا الفلسطينية على الساحل. فعندما اتفق الشهيد أبو علي إياد، مع القيادة العسكرية السورية، على دورات مغاوير بحرية، أو « ضفادع » كان واضحاً أن استقلالية حركة « فتح » تجعلها تحرص على أن يكون التدريب في قاعدة بحرية خاصة بها. وقد تولى غالب عويس التفتيش عن نقطة على الساحل، تصلح كقاعدة للتدريب ولشؤون صناعة القوارب. استقل الرجل دراجته البخارية واتجه شمالاً، وفي ذهنه أن القاعدة سوف تستوعب فنيين شُبان من المخيم، تلقوا في إسكندنافيا، عن طريق وكالة الغوث، تأهيلاً حرفياً في هندسة بناء قوارب الصيد، ويمكن إلحاقهم في القاعدة وتزويدهم بمستلزمات لحام الأوكسجين وصفائح الحديد والمعدات اللازمة، لكي نصنع قواربنا بأنفسنا. وشاهد « أبو نزار » على شاطىء بلدة برج سلام، مقهى على شكل جزيرة صغيرة، موصولة بالشاطي من خلال طريق ضيق، لكنه بامتداده في الماء خمسين متراً وصولاً الى مبنى المقهى؛ يصنع مرسى قوارب طبيعياً. تفاوض « أبو نزار » على دفع خلوْ لمستأجر المكان، فأخليت المقهى، ودخلت معدات الحدادة، والتحق المرحوم فاضل يونس، المتخرج من كلية بحرية مدنية في الهند، ليكون آمر القاعدة، قبل وصول دورتنا التي كان آمرها خالد طنطش (وهو الآن في الضفة، ولا أعلم لماذا لم يتحصل على الدور الذي توقعته له، إذ كان في شبابه اليافع، قوي الشخصية ومتزناًَ ومحبوباً من الشباب)!
بعد التحاقنا بالدورة، جاء ضباط سلاح البحرية السوري بالمعدات اللازمة، وبدأ التدريب الشاق. كان أقرب الضباط الينا هو رائد بحري ممتاز ومتحمس لمهمته، من الطائفة العلوية. هذا وسواه، تعلمت منهم عدم أخذ الناس بالجملة، سواء كانوا طوائف أو عائلات أو مناطق أو مدن أو بلدان. فقد كان مدربنا السوري في موضع إعجابنا بخلقه وبمستواه المهني، وبروحه الرياضية، وبمشاعره القومية.
كانت اللاذقية تفصل بيننا وبين حي الرمل الفلسطيني. وربما لا يُصدق شبان اليوم أن السيارات الخاصة كانت نادرة في اللاذقية آنذاك، بل إن سيارات الأجرة محدودة، والغلبة لسيارات النقل العام من الحافلات. ففي حي الشيخ ضاهر في وسط المدينة، كنا نرى صفوف الدراجات النارية، مع عربات صغيرة ملحقة بها، بديلاً عملياً سريعاً، لسيارات الأجرة القليلة العدد. يستقل الراغب في التنقل دراجة نارية، تأخذه من حي الى حي داخل المدينة، أو من المدينة الى القرى والبلدات المجاورة. لكن المدينة بدت أيامها نظيفة وفاتنة، توفر المباهج الشامية المألوفة، عبر محال الألبسة والمطاعم والمثلجات والأسواق الزاخرة. وهناك الحي القديم، الذي يتماثل مع أحياء صيدا والقدس ونابلس والخليل وكل المدن العتيقة الحميمة. أما الآثار المعمارية فحدث ولا حرج. فاللاذقية تقوم على أرض مملكة أوغاريت التي تعاقبت عليها الحضارات وتركت بصماتها والكثير من شواهد مآثرها، من أقواس نصر وأطلال معابد وقلاع.
كان لوجود مخيم الرمل الفلسطيني، أثره العاطفي على أوقاتنا، إذ أحسسنا بأن لدينا، على الساحل السوري البعيد عن التجمعات الفلسطينية الكثيفة، جزءاً من قاعدتنا الاجتماعية. فالمخيم شبيه المخيم، في لبنان وسورية والأردن والضفة وغزة. تواصلنا مع « الرمل » في أيام الاستراحة من التدريب. فيه كنا نزهو بأنفسنا ـ كفدائئين أيامها ـ وترحب بنا الطرقات والأهلون، ويتلذذ واحدنا بشطيرة الفلافل هناك، ويعتريه الإحساس بأن العلاقة بالمكان ستتواصل، لذا لم يتوان بعضنا عن تأسيس علاقات مع الناس، ويستكشف ما إذا كان سيجد لنفسه عروساً في الأفق المنظور!
علاقتنا في القاعدة، مع المدربين من سلاح البحرية السوري، وعلاقتنا في المخيم مع الأهل فيه، رسمت كلتاهما في اذهاننا صورة لجيش في البحر، سيكون عصياً لا يأخذه الحاكمون الى غير ميادين الوغى. فمثلما المخيمات الفلسطينية في تخوم دمشق وفي درعا وحمص وحلب وسواها، شاهدة أمام جيش البر، على الاستلاب وضياع الحق الفلسطيني، فإن « الرمل الفلسطيني » في اللاذقية، ظل الشاهد على الأمر نفسه، أمام جيش البحر. وحين يقصف جيش البحر، المخيم الشاهد، والمدينة الإيقونة، ثم يقتحم الاثنتين، جيش البر، نصبح بصدد أحوال وصور مغايرة، لا علاقة لها بما اختزنته الذاكرة الشخصية. يصبح القصف، هجوماًَ بالنيران على بديهيات الحياة وطبائع الحب والألفة والبنيان المرصوص. لن يفلح المهاجمون، وستنتصر المدينة ومعها المخيم، وسوف تظل وقائع الأوقات المقبلة، مطابقة لما في مخزون الذاكرة!
المصدر: www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com