المثقفون والثورة السورية – ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 31 décembre 2011

فوق المتوقع كانت مشاركة مثقفين في الثورة السورية. لقد سُجِن مثقفون أثناء الثورة، وساهم مثقفون في أوجه متنوعة من أنشطتها، وبرز مثقفون في قيادة التشكيلات المعارضة التي ظهرت بعد الثورة. وتعطي أسماء نجاتي طيارة ورزان زيتونة وفدوى سليمان وبرهان غليون فكرة أولية عن دور المثقفين السوريين في الثورة.

1

عدا اتساعها كمّياً، تعرض مشاركة المثقفين في الثورة السورية ملمحين لافتين. أولهما، الانخراط النسوي المهم، بما في ذلك في العمل الميداني. لقد اعتقلت ناشطات مثقفات، واضطرت أخريات للتواري، وغيرهن إلى مغادرة البلد. غير رزان وفدوى، تُذكَر أسماء ريم الغزي (معتقلة اليوم) ورفاه ناشد وهنادي زحلوطة ورزان غزاوي وغيفارا نمر (اعتقلن لبعض الوقت) وروزا ياسين وخولة دنيا وحنان اللحام وغيرهن، فضلاً عن ناشطات يعشن اليوم خارج البلد مثل ريما فليحان ومي سكاف ورشا عمران وسهير الأتاسي وسمر يزبك، وقد خرجن تجنبا لأخطار تتهددهن. فضلاً أيضاً عن عشرات من الفتيات الشابات اللاتي يعملن على تنظيم بعض أنشطة الثورة، بما فيها التنسيق الميداني، ومنهن من بدأن للتو عملهن الصحافي أو الفني. هذا كله لا يقول شيئاً عن مشاركة عموم النساء السوريات في الثورة (من الأسماء المعروفة دانا جوابرة ومروة الغميان وملك شنوان… وثلاثتهن اعتقلن وقتا)، ولا عن مبادرتهن في غير منطقة إلى تنظيم أنفسهن والاستقلال بعملهن. وهذا ما لم يجر تناوله بصورة منظّمة بعد.
وبينما يشكل حضور نساء مثقفات في حد ذاته حدثاً غير مسبوق، فإن في تحدّر نسبة مهمة منهن من أقليات دينية ومذهبية، ما يقول أشياء مهمة عن الثورة السورية: ليست ثورة رجال أو ثورة ذكورية (يحتمل، تاليا، أنها نزّاعة لأن تكون عنيفة، إيديولوجية، مُنشدّة إلى السلطة أساساً)، وليست ثورة مسلمين سنّيين (متمركزة حول العقيدة أو تحركها دوافع دينية، أو حتى حرمانات فئوية خاصة بهم)، ولا هي ثورة الأكثرية العربية (المشاركة الكردية بارزة ومعروفة، ومشاركة آشوريين لافتة). إنها ثورة إنسانية ووطنية عامة، لا يشعر أحد فيها بأنه غريب.
الشيء المهم في مشاركة المثقفات، والمشاركة النسوية في الثورة عموماً، أنهن بادرن إليها منذ بداية الثورة، ومن دون أن يكنّ تحت قيادة أحد (غير قليل منهن « قائدات » في ميادينهن)، ومن دون أطر محددة لعملهن، ومن دون تسويغ دورهن بإيديولوجيا نسوية، أو بأي إيديولوجيا على كل حال.
في المحصلة، يمكن القول باطمئنان كامل إن مشاركة النساء، والمثقفات منهن، في الثورة، أكبر من مشاركتهن في نظام يصف الثورة بأنها سلفية، وإنه إن تكن مشاركة نساء (ورجال) من أقليات ليست أكبر عدداً ممن قد يفضلن ويفضلون النظام، فإن مشاركاتهم أوسع من كافية لإبطال أسطورة الثورة السلفية. الواقع أن هذه الأسطورة تقول الكثير عن النظام وعمّا يريده، وليس أي شيء عن الثورة.

2

الملمح الثاني لمشاركة المثقفين في الثورة السورية يتمثل في أن مثقفي الكلمة، أو الكتّاب، ليسوا الأبرز حضوراً اليوم، خلافاً لكل ما اتسم به دور المثقفين في الحياة العامة في مراحل سابقة من تاريخ البلد. وأن مجال نشاط كثيرين منهم اليوم يحيل على السمعي البصري: أشرطة مصورة، أغانٍ، عروض فنية، فضلا عما تتيحه شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من مزج بين الكلمة والصورة والشريط المصور. أنشطة الثورة الاحتجاجية بالذات عرضت نفسها كمشهد احتفالي يبث، وهي لا تفترض الكاميرا والكومبيوتر وحدهما، بل كذلك التلحين والتدريب والتنظيم والإخراج. وإلى هذا كله رسوم كاريكاتورية (علي فرزات، طبعا) ولوحات.
في المقابل، يظهر عدد غير قليل من مثقفي الكلمة مواقف حيال الثورة تراوح بين التحفظ والارتباك والتأييد الفاتر، والكلام المزدوج، هذا حين لا يكونون معادين لها صراحة. قد يعود هذا إلى أن مثقفي الكلمة، وهم عموما أكبر سناً من مثقفي الصورة والصوت والخط، استبطنوا إحباطات متكررة في حياتهم، فلم تعد لهم قلوب. وكذلك تعوّد كثيرون منهم على العقلنة التبريرية، والعيش في عالم من كلمات، كتيمة لا تكاد تسمح بتسرب شيء من الواقع، وتغليب استقرارهم الفكري والنفسي الخاص على المساهمة المتعبة في صنع أوضاع عامة أكثر عدالة. مثقفو الصورة والنغمة واللون، في المقابل، أقرب إلى الحياة المتغيرة، وأقل انغماسا في العقلنة الزائفة بحكم سنّهم الأصغر عموماً من جهة، ونوعية أدوات عملهم الأكثر قرباً من الحساسية والمخيلة وشريحة أوسع من الواقع والإنسان العادي من جهة ثانية.

3

وعلى نحو ما كانت الثورة مناسبة لظهور معارضة جديدة متميزة عن المعارضة التقليدية بكونها أفتى، ولا حزبية، وأقرب الى الحياة وميادينها، وأقل تمركزا حول الإيديولوجيا والسلطة، فإنها أيضا التجربة المكوّنة لمثقفين جدد، يتميزون عن المثقفين التقليديين (ومنهم كاتب هذه السطور) بالعمر الأصغر وبالأدوات الأكثر طليعية، كما سبق القول.
الواقع أن معظم المثقفين التقليديين كانوا مرتبطين في طور من أطوار حياتهم بالمعارضة الحزبية وإيديولوجياتها، وبعضهم لا يزالون بصورة ما، فيما تبدو العلاقة بين المثقفين الجدد والمعارضة الجديدة علاقة وثيقة بدورها، بما يسوّغ الكلام على « كتلة تاريخية » جديدة، مكوّنة من « مجتمع العمل » (السكان الذين يعيشون من عملهم)، ومن طيف من الناشطين والمناضلين السياسيين الشبان الذين يشكلون المعارضة الجديدة، ومن المثقفين الجدد، الشبّان بدورهم.

4

لكن إذا كان الميل العام هو كذلك من دون شك، فليس من الصواب في شيء رسم حد فاصل نهائي بين جيلين من المثقفين. هناك حد فاصل واحد كبير هو بين مَن هم مع الثورة ومَن هم مع النظام. بين الأولين معارضون ومثقفون تقليديون، كهول وأهل كلام، وبين جماعة النظام شبّان.
الواقع أن أهم ما قد يؤخذ على المثقفين التقليدين ليس أنهم لم يساهموا في الثورة، فقد ساهم بعضهم؛ المأخذ المهم هو أنهم ساهموا في الثورة غالباً كسياسيين، وأقل بكثير كمثقفين.
هذه سمة مميزة جدا للكتلة التاريخية التقليدية، إن صح التعبير: المثقفون عينهم على السياسة، حتى الذين يفضلون منهم أن يُعرّفوا كـ »مفكرين »، وآل الأمر بهم إلى عداء صريح للمعارضة التقليدية. في أعمال هؤلاء الفكرية، هناك الكثير جداً من السياسة والحسابات السياسية المباشرة، غير المصرّح بها.
الموقع شبه الشاغر من جهة المثقفين التقليديين هو المشاركة في الثورة من موقع الثقافة، أي العمل على تغطيتها معرفياً وجمالياً وأخلاقياً، بما في ذلك نقدها على أرض قيمها العامة.
في المقابل، لا يبدو أن المثقف الجديد يجد أيّ عسر في الانخراط في الثورة، من دون أن يرى في ذلك نشاطاً سياسياً، أو ينضبط بعقيدة محددة، أو ينخرط في حزب. الواقع أن العديد من رموز الثورة الشبان، ومن شهدائها، هم أقرب إلى فنانين في نمط حياتهم، حين لا يكونون كذلك في مهنهم، وما دفعهم للانخراط في الثورة اعتبارات أخلاقية تتصل بالعدالة والحرية والإنسانية، أكثر مما هي أي اعتبارات سياسية مباشرة. وهم يثورون من دون إيديولوجيا ثورة، وينسجنون من دون إيديولوجيا سجن بطولية، وفي موقفهم العام غير قليل من السخرية والشجاعة والتواضع.

5

تصلح هذه الكلمات لفدوى سليمان بياناً لتعريف المثقف السوري الجديد: « قالت لي إحدى الصديقات إنني أصبحت شئت أم أبيت رمزا للثائرة العلوية الفنانة، وإنني يجب أن أنتبه إلى تصرفاتي أمام الناس لأبقى ذلك الرمز الذي لا تشوبه شائبة، أقول لتلك الصديقة ولغيرها إنني لست صنماً، وإن الشعب السوري على حد معرفتي يسقط الأصنام في بلده، وأنا لست منافقة لأتحول إلى صنم لا حياة فيه. أنا فدوى التي تحيا بكل ما في الحياة من حياة، ولديها كالحياة سلبياتها وإيجابياتها. لديَّ حبيب كباقي الناس، وأصوم وأصلّي ولكن على طريقتي، وقد أشرب كأس نبيذ من الذي صنعه جدي، وسأشرب نخب النصر من نبيذه، وأحترم من لا يشرب وأحترم وأجلّ من يصلي، وأقدس من يصوم وهو ليس صنماً بل إنسان يصل ويتواصل. وإن كنتم حوّلتموني إلى رمز لتسلبوا حريتي، فليسقط الرمز ولتحيا الحرية: حريتي. وأنا لست علوية ولست فنانة. أنا الثائرة صحيح منذ مولدي على كل القيم البالية في مجتمعي، الثائرة لأجل الحرية ولأجل أن يكون الناس أحراراً في ما يعتقدونه ويؤمنون به ويحبونه طالما أنه يريحهم حتى لو عبدوا الشجرة. فليسقط العلويون وليبقى الإنسان فيهم، وليسقط السنّة والدروز والإسماعيلية والإسلام واليهودية والمسيحية، وليبق الإنسان فيهم. عاش الإنسان حراً كريماً أينما كان، ومهما كان إنتماؤه ودينه عاش الإنسان أينما كان مهما كان انتماؤه ودينه. عاش عاش عاش » (من صفحتها على فايسبوك https://www.facebook.com/fadwa.soliman1?ref=ts).
مدهش حقا: لست صنماً! أنا فدوى! كالحياة! لي حبيب! فليسقط الرمز وتحيا الحرية! أنا الثائرة! يسقط العلويون والسنّة والدروز، ويحيا الإنسان! وتضع رفضها لأن تكون صنماً في سياق إسقاط السوريين للأصنام!
فدوى سليمان ممثلة معروفة، في ثلاثينات عمرها. اشتهرت بظهورها في بعض أحياء حمص الثائرة (هي من ريف طرطوس، وكانت تعيش في دمشق) إلى جانب عبد الباسط الساروت (20 عاما، كان حارس فريق نادي الكرامة الحمصي للشباب، وينسب إليه أنه يعتبر نفسه حارس كرامة الشعب السوري).
فدوى ليست ممثلة للثورة (وإن تكن « ممثلة » في الثورة). لكن مختلفين كثيرين عنها يشبهونها في الحساسية والحرية الداخلية.
أمثال فدوى المتوارية، وعامر مطر وشادي أبو فخر المعتقلين، وغياث مطر الشهيد، هم وجوه سوريا الجديدة ورموزها. هؤلاء ليسوا مثل بعضهم، لكن أكثر ما يميزهم أنهم يفكرون من رؤوسهم ويشعرون من قلوبهم ويحكمون من ضمائرهم.

6

على أن ما يشغل البال منذ الآن هو الموقع المحتمل للفكر الحر والثقافة النقدية، والإنسانيات، والفلسفة، في ثقافتنا في سوريا الجديدة. هذا الموقع متواضع أصلا، وهو معرّض في مقبلات الأيام للتحدي من جهتين. الجهة الإسلامية المحافظة التي تصدر عن نموذج فكري وقيمي متحفظ عن أسس الفكر الحر، ونزّاع إلى الرقابة على الثقافة وإلى التحكم بالتعليم؛ ثم من جهة ثقافة الصورة، أو الثقافة المرقمة، والفنون التي تشكل نقطة قوة للثورة اليوم، والتي تعتمد كثيرا على التكنولوجيا.
الديموقراطية وثيقة الارتباط بالفكر الحر ومفهوم الحقيقة الموضوعية والمثقف الناقد. فماذا تكون حالها في إطار اجتماعي سياسي، تحوز التيارات الإسلامية حضوراً واسعاً في حياته العامة، ويجتذب العالم الرقمي جيل الشباب؟ لا نعلم. من المحتمل أن تكون قاعدة الثقافة أوسع، لكن مع قليل من الثقافة الرفيعة. لكن أليس مثل ذلك قيل في خصوص الديموقراطيات الأوروبية في القرن التاسع عشر؟ قاله أمثال توكفيل ونيتشه؟
على أن كل شيء مرهون بما ينجو من سوريا من نظام التدمير الشامل، القائم. وبينما من المرجح أن ننعم بقدر أكبر من الحرية في كل حال، فإن كل شيء آخر سيكون أكثر صعوبة. الحرية في حد ذاتها تجعل الأشياء كلها أصعب. 

المصدر: http://www.annahar.com/article.php?t=mulhak&p=2&d=24607