المسؤولية الجماعية ومسؤولية الجماعة -سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 24 octobre 2014

اختطفت مجموعة إرهابية في منطقة تيزي أوزو الجزائرية متسلق جبال فرنسياً، ثم أعدمته بعد أيام قليلة، بقطع الرأس، بعد أن قايضت حياته بوقف العمليات العسكرية التي تشارك فيها قوات فرنسية على إرهابيي داعش في العراق. وكان قد سبق لهذه العصابة أن بايعت مجرمي داعش، قبل فترة وجيزة، مثل جماعات إرهابية وعصابات إجرامية عديدة. وأحدثت هذه الجريمة صدمة أمنية جديدة للسلطات الجزائرية، وأوضحت ضعف سيطرتها على المناطق الساخنة الجبلية والوعرة التي تحمل تاريخاً عنفياً قديماً.

وفي الجانب الفرنسي، كان للحادثة وقع شعبي ورسمي ملتهب، خصوصاً أنها تأتي في فترة الاستقطابات السياسية والتوترات الداخلية والخيبات الاقتصادية التي تنعكس سلباً على أداء الرئاسة وشعبيتها، كما الحكومة الجديدة. وباستثناء تصريحات شاذّة هنا أو هناك، أثبت الجسم السياسي الفرنسي تضامناً وطنياً حيّد المناكفات عن المسألة الإنسانية. فقليل جداً في المعارضة من انتقد أداء الحكومة، واستغل قتل الرهينة لمهاجمة سياساتها واختياراتها. ومن فعل، فقد أظهر ضحالة موقفه، وبيّن صيده في الماء العكر في فترة تتطلب تعاضداً وتضامناً. وتم التأكيد، بوضوح، على متابعة ومحاربة الإرهاب بكل الوسائل، ولو كان الثمن غالياً.

في المقابل، انطلقت تصريحاتٌ تطالب مسلمي فرنسا باتخاذ موقف واضح من هذا العمل، أو تدعوهم إلى التنديد الصريح بالإرهاب الذي يقع باسم عصابةٍ تطلق على نفسها « دولة إسلامية ». ووصل الأمر إلى أن أجرى موقع جريدة الفيغارو اليمينية استطلاعاً لقرائه حول السؤال: « هل تعتبر أن إدانة مسلمي فرنسا للعملية كافية؟ ». وقد أثار هذا التعبير ردود فعل سلبية عدة، ما دفع إدارة الصحيفة إلى إلغائه. وانطلاقاً من هذا التساؤل التشكيكي، توضّح خط فكري وإعلامي يُحمّل، ولو مواربة، جريمة الإرهابيين الجزائريين، إلى جموع الخمسة ملايين مسلم فرنسي.

هو إذاً يفترض، أصلاً، أن المسلمين في هذا البلد متضامنون « طبيعياً » مع المجرمين، وعليهم القيام بإدانة هذا العمل، لكي ينفوا عنهم هذه « التهمة ». فواجب الإدانة، إذن، هو مفروضٌ عليهم أكثر من غيرهم كما يبدو. فمن يطالبهم بهذا التصرف الاستثنائي خارج إطار الإنسانية الجامعة، بل ضمن إطار الفئوية المقصية، يفترض ارتباطهم مع المجرمين، وعليهم القيام بعملية فك الارتباط علنياً، وأن يشتروا « براءة ذمّة ».

يحمل هذا الطلب في صلبه إقصاءً وتمييزاً، إن لم يكن اتهاماً صريحاً بالمسؤولية الجماعية دينياً. وللأسف، وقعت فئات عديدة من المجتمع المسلم الفرنسي في هذا الفخ، وأصدرت البيانات وميّزت نفسها عن مرتكبي هذه الجريمة، وأدانت تلظّيهم في لبوس الدين الإسلامي، وأمعنت في توضيح الجوانب الإنسانية، وحمولات الرحمة والتآخي التي تُثمر على شجرة هذا المعتقد الديني.

كذلك خرج مئات المصلين من الجوامع الرئيسية في المدن الكبرى، للتعبير عن إدانتهم، وللقول إن الإسلام بريءٌ من هذه الأفعال. وتعزّز هذا الشعور « الدوني » بالمواطنة في تعليقاتٍ ممثلين لليمين الفرنسي طالبت المسلمين بأن يقدموا شهادات « حسن سلوك »، وأن يشتروا « عذرية » جديدة، لكي يستحقوا المواطنة الكاملة.

هل تُطبّق هذه القاعدة الانتقائية بشكل عام وشامل؟ هل يُطالَب اليهود الفرنسيون بأن يدينوا، كيهود وليس كمواطنين، جريمة حرق ثلاثة متطرفين فتى فلسطينياً حيّاً في الضفة الغربية في أغسطس/ آب الماضي؟ هل يُطالب المسيحيون الفرنسيون، كمسيحيين وليس كمواطنين، بإدانة قتل العصابات المتطرفة في أفريقيا الوسطى مسلمين؟ وكما سخر موقع (شارع 89) الفرنسي، فهل يُطالب الفلاسفة فقط بأن يعبروا عن إدانتهم عار الفلسفة الفرنسية الحديثة برنار هنري ليفي؟

هناك، إذن، ضرورة لرفض هذا الخلط الخطير، فالفرنسي المسلم هو انسانٌ أولاً، ومواطنٌ ثانياً، وبالتالي، فهو معنيٌ، كعضو كامل الأهلية في مجتمعه المتنوع، بأن يتضامن، أو لا يتضامن، مع قضية عامة يُحدد موقفه منها. وهو غير معنيٌ أبداً بأن يبرر، أو يعبّر عن عدم تضامنه مع ما يقترفه مجرمون قتلة، فقط لأن العقل الإقصائي الديني يحصره في انتمائه إلى دينٍ مشترك معهم.

في المقابل، مؤكد أن هناك مسؤولية « فقهية » و »اجتهادية » و »فكرية » لعلماء المسلمين، أو قادة الرأي لديهم، كي يُعملوا العقل، وهذا ما تدعو إليه كل العقائد، في صياغة « الإدانة » التحليلية اللازمة. ليس لهذه الجريمة بالذات، بل لكل ما ينمو من طفيلياتٍ فكريةٍ على سطح بحيرة الاجتهاد الراكدة منذ قرون، ما أدّى إلى كوارث إنسانية وأخلاقية، تنكّرت بالإسلام. هناك عملية فكرية واسعة وعميقة تُنتَظر. وهناك، أيضاً، مواجهة جريئة قائمة على قراءة نقدية واعية، تواجه المتنطحين يومياً، عبر وسائل التواصل، أو من خلال الفضائيات، لنشر الجهل، وتعميق الهوّة بين الدين والإنسانية.

عملٌ شاق لكنه ممتع، لأنه سينقذ حيوات الملايين ومستقبلهم وازدهارهم ورخاءهم. وهو لا يتم إلا في ظل الديمقراطية. فالإصلاح الديني الحقيقي، بعد أن اضطهد واغتيل علمانياً ودينياً في الدول العربية، بحاجة إلى « المفكرين الجدد في الإسلام » في الغرب، وهو عنوان كتاب رشيد بن زين، عالم الإسلاميات، وتلميذ الراحل محمد أركون، والذي لم يُقرأ عربياً بعد.