المستأسد بشبّيحته بين « الأخطاء » و »الإصلاحات » على ضوء محاكمة فرعون مصر – *إياد

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 août 2011

 في الثامن عشر من شهر أيّار، بعد مرور شهرين على بداية ثورة الكرامة والحريّة في سوريا، ثورة شعبيّة سلميّة لا حزبيّة ولا طائفيّة، نشرت جريدة الوطن السورية أخباراَ عن لقاء بشار الحاكم بأمر أبيه والمستأسد بشبّيحته، بوفد من « وجهاء حي الميدان بدمشق ». نقلت الصحيفة بأن اللقاء كان منفتحاً وصريحاً وفي « أجواء ممتازة ومريحة جداً »، حيث أكّد المستأسد بشبّيحته بأن « الأزمة التي مرّت بها سورية تم تجاوزها وأن الأحداث بنهايتها »، واعترف بوجود « أخطاء أمنية »، بسبب « عدم دراية القوى الأمنية بكيفية التعامل بظروف كهذه« ، وأنّه سيتمّ العمل على « تدريب أربعة آلاف شرطي ليقوموا بالعمل الصحيح بما يمنع مثل هذه التجاوزات« ، مؤكّداً أنّه « أعطى توجيهاته بأن دور الأمن هو جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها للجهات الرقابية المسؤولة »، وأنّه « سيكون هناك تغيير جذري بطريقة التعامل مع احتياجات المواطنين ».

ولست أدري إن كان الحاكم بأمر أبيه حالماً ويظنّ أنّ الكلام هو عن سويسرا وليس عن سوريا، فالاسمان متشابهان وحروفهما مشتركة، أم أنّه يستخفّ عقول شعبه كما استخفّ فرعون قومه؟ كيف يمكنه الحديث عن مجرّد « أخطاء » لوصف سقوط ما يزيد عن 800 شهيد من أبناء سوريا حتّى ذلك الوقت، خلا عن آلاف الجرحى والمعتقلين والمعذّبين حتّى من الأطفال، وكيف يدّعي أن هذه « الأخطاء » سيتمّ تجاوزها بتدريب بسيط لعناصر الشرطة وبإعطاء توجيهاتٍ عن دور الأمن، وقد عجز عن القيام بهذا العمل (أو لعلّه لم يكن يريد القيام به) خلال إحدى عشرة سنة من السلطة المطلقة؟ ثمّ من سيُحاسَب عن كل هذه « الأخطاء » المسيلة لدماء المواطنين، أم أن عصابة المستأسد بشبّيحته تفعل ما تشاء ولا تُسْأل عمّا تفعل؟

وتمرّ أكثر من ثلاثة أسابيع ولا تنتهي « الأحداث » ولا تتوقّف « الأخطاء » القاتلة كما وعد المستأسد بشبّيحته، بل ها هي حماة نزلت للمشاركة بمظاهراتها العملاقة بمئات الآلاف من أهاليها، وارتفع عدد الشهداء ليتجاوز 1100 شهيد، وازداد عدد المعتقلين رغم رفع حالة الطوارئ وقوانين « العفو » الرئاسية. اختار الحاكم بأمر أبيه عندئذٍ أن يلتقي بوفد من أهالي جوبر، طالباً منهم أن ينسوا أنهم يجلسون مع رئيس الجمهورية وأن يتحدّثوا بعفويه تامة وصراحة مطلقة، فهو يرغب بالاستماع للمطالب وليس للمديح (إذ أنّه لا يُسمح عادة في حضرة المستأسد بشبّيحته سوى ذِكْر آيات الثناء)، عسى أن ينجح هذه المرّة في إيصال رسالة تقنع شعبه بحسن نيّته وصدقه وإخلاصه في إرادة الإصلاح، فهو الرجل المناسب في المكان المناسب والوقت المناسب.

وفي الثاني عشر من حزيران تناقلت مواقع إعلامية سورية مختصراً شاملاً لتفاصيل اللقاء نشره أحد أهالي جوبر الذين شاركوا في هذا اللقاء.  كرّر الحاكم بأمر أبيه ماقاله سابقاً عن « الأخطاء« ، وعن « العقليّة القديمة » لعناصر الأمن التي أدّت إلى هذه « الأخطاء » من قتلٍ وتعذيب. قال أنّ المسؤولين عن هذه « الأخطاء » كابن خالته عاطف نجيب رئيس فرع الأمن السياسي السابق في درعا، وغيره من عناصر الأمن، لا يستطيع محاكمتهم إذا لم يتقدّم أحد بالشكوى عليهم (كيف غفلنا عن هذه، أليست سوريا دولة القانون ؟!)، ولكنّه وعد بسحب الأمن من بين الناس بشكل نهائي. وتكلّم الحاكم بأمر أبيه أيضاً عن « الإصلاح »، فأقرّ أنّ كلّ الخطوات التي قاموا بها لتحسين الوضع الاقتصادي في السنوات الأخيرة كانت فاشلة، وأنّ هناك أخطاء في القوانين الإصلاحية التي يعرضونها بسبب الاستعجال، مؤكّداً أنّه مستعدّ للاستقالة إذا كان الشعب لا يريده.

شهد الحاكم بأمر أبيه على نفسه، هي إحدى عشرة سنة من الحكم الفاشل و »الأخطاء »، حكم عصابات لا حكم دولة، من قمعٍ وقتلٍ وإذلالٍ أمنيّ، ومن سياسات اقتصاديّةٍ مدمِّرة (إلّا لحيتان المال وعلى رأسهم ابن خاله ناهب الدنيا وضامن استقرار إسرائيل). ثمّ هو يخرج علينا معلناً زهده بالحكم، واستعداده لتركه ليعود إلى مهنته التي يحبّها وإلى عائلته وأصدقائه الذين حُرِم منهم سنين طويلة وهو في خدمة شعبه.  ولعلّه ظنّ أنّه بكلامه المعسول سترقّ له القلوب، وسينحني الشعب  مصفّقاً ولاهجاً بآيات « منحبّك »، وسيضعف الحراك الثوري ويسهل إخماده، وما قاله، بل أقلّ منه بكثير، كان يكفي، في أي ّ دولةٍ تحترم نفسها وتحترم مواطنيها، لإنهاء حكمه ومحاسبته.

كذب المستأسد بشبّيحته وخاب سعيه، فلا هو سحب عناصر أمنه وشبّيحته من المدن، ولا الحراك الثوري ضعف رغم تزايد القمع الأعمى والحاقد.

تمرّ الأسابيع والثورة المباركة تزداد التهاباً والمستأسد بشبّيحته ثابت على نهجه في القتل والكذب واستخفاف عقول الناس. وهاهي البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، ثلاث دول « صديقة » من أعضاء مجلس الأمن، ترسل وفداً يلتقي به في العاشر من آب الموافق للعاشر من رمضان، وكان عدد الشهداء قد تجاوز الألفين خلا عن آلاف من المفقودين والمعتقلين، لتطلب منه « الوقف الفوري لكافة أشكال العنف« ، فيكرّر عليهم المستأسد بشبّيحته ما قاله منذ ثلاثة أشهرٍ عن وقوع « بعض الأخطاء في المراحل الأولى من الاضطرابات »، متعهداً أن « الجهود تُبذل للحيلولة دون تكرارها »، ولا ندري كم من الوقت سيستغرق هذا « الإصلاح » وكم سيسقط من الشهداء قبل تحقيقه؟! كما نقل بيان الوفد عن وزير خارجية المستأسد بشبّيحته أنّ سوريا ستكون « ديمقراطية حرّة ومتعدّدة قبل نهاية العام الجاري ».

 في هذا اللقاء لم يتحدّث الحاكم بأمر أبيه عن زهده في الحكم ولكنّه ترك هذا الأمر لخادمه مشبِّح الجمهورية الملقّب بحسّون، حيث تناقلت وقائع إعلامية أنّه عقد حفل إفطار، والله غنيّ عن صيامه، في فندق الكارلتون بحلب، ليكشف لنا، وهو العالم بخفايا الأمور والمطلّع على ما غاب عن العقول، عن مخطّط يستهدف تدمير سوريا وتقسيمها بمشاركة 600 طائرة عسكريّة، مبيّناً أنّه مخطّط بدأ تنفيذه في السودان و مصر فاليمن و ليبيا و تونس، لتبقى سوريا القلعة الأخيرة، أي أنّ المُشبِّح حسّون يبيّن لنا ما خفي علينا لسذاجتنا، من أنّ سقوط فرعونيّ تونس ومصر هو جزء من المؤامرة، وكذلك الثورة على فرعونيّ اليمن وليبيا. ويضيف حسّون أنّ هدف هذا المخطّط هو إحداث « فرز بين شرق مسلم و غرب مسيحي، يُهجّر فيه كل مسيحيّ العالم العربي إلى أوربا، ويُهجّر فيه كل أبناء المسلمين في أوربا إلى العالم العربي »،  لإشعال « حرب دينية طويلة الأمد بين المسلمين والمسحيين ينعم فيها اليهود والمؤسسات الاقتصادية بـ 100 سنة من الاستعباد للشعوب العربيّة و الأوربية ». مخطّط عجز هتلر وأرباب اليمين المتطرِّف والفكر العنصريّ وأنصار « صراع الحضارات » عن تخيّل مثله.

 وهنا يُظهر لنا المُشبِّح حسّون عظمة سيّده المستأسد بشبّيحته، فهو كما يقول « زاهد في الرئاسة جميعها وهو يعرف أنّ وطننا غال وأنّنا إن تخلينا اليوم عنه فلن يكون هناك وطن »، فحسّون ينصحنا ويحذرنا أنّه إن رحل المستأسد بشبّيحته فالشعب هالك لا محالة ، إذ لا قدرة لشعب سوريا أن يواجه هذه المؤامرات إلّا بقيادته.

 في هذه الأثناء، تأتينا صور فرعون مصر المخلوع في قفص الاتّهام مع ابنيه ووزير داخليته السابق. هذا الفرعون كان أيضاً من « الزاهدين المصلحين« ، ونذكر له خطابه أثناء الثورة المصريّة حيث قال « إنني لم أكن أنوي الترشّح لولاية جديدة. لم أكن يوما طالب سلطة أو جاه وليس هذا من طبعي، وطوال حياتي خدمت الوطن في الحرب والسلام. لذلك سأعمل خلال الأشهر الباقية من رئاستي على تأمين الانتقال السلمي للسلطة ». لكنّ شعب مصر أصمّ أذنيه عن هذا النداء ومضى حتّى أسقط الطاغية (وهذا جزء من المؤامرة كما بيّن المشبِّح حسّون)، وها هو يجرّه مع أبنائه ومعاونيه ليحاكموا بتهم « قتل متظاهرين وإهدار المال العام »، علماً بأنّ عدد شهداء الثورة المصرية كان قد وصل إلى 850 قتيل خلا آلاف الجرحى.

 « قتل متظاهرين وإهدار المال العام« ، هي تهمٌ تتعلّق بالسياسة الداخلية للرئيس المخلوع، وليس لها علاقة لا بكامب ديفيد ولا للاستسلام لإملاءات أمريكا أو إسرائيل، فهذه لم يحن وقتها بعد. تهمٌ لم يكن للشعب المصريّ أن يوجّهها لرئيسه السابق في ظلّ استمراره بالحكم، أو تحت ديمقراطيّة زائفة يسيطر فيها حزب الرئيس ومن والاه على كلّ أشكال السلطات ولا يبقى لمن عارضهم إلّا الفتات.

 خطورة محاكمة رئيس مصر المخلوع أمام قضاء مصر المتحرّر، تكمن في أنّه لو وجَد قضاء مستقلّ في سوريا لكان بالإمكان توجيه مثل هذه التهم لبشّار المستأسد بشبّيحته، ولاسيما أنّه اعترف بنفسه بوجود ما أسماه « أخطاء أمنية » وبفشل سياساته الاقتصادية، وأنّه ادّعى أنّه لو اشتكى أحد على مسؤولي الأمن لحوكموا. إذن ففي سوريّة متحرّرة وُلِدت من جديد، ذات نظام ديمقراطي تعدّدي يحترم القانون والمواثيق الدولية، لابدّ أن يتحرّك الشعب السوري ليفتح ملفّات القمع والقتل والنهب الاقتصاديّ، ولن يتوّقف الأمر على أشهر الثورة المباركة بل سيغطّي كلّ فترة حكم المستأسد بشبّيحته، وسيعود أبعد من هذا ليتناول كلّ ما جرى على أيدي أبيه وعمّه وأعوانهم، من سقوط الجولان إلى المجازر المتعدّدة التي ارتكبوها وحقوق وأموال الناس التي سرقوها.

 الإصلاحات والديمقراطيّة التي يسعى إليها المستأسد بشبّيحته وأعوانه وهم مكرهون، والتي يطالبه المجتمع الدولي بتحقيقها ويعطيه الوقت ليتابع في القتل والقمع بحجّة السير في هذه الإصلاحات، هي تلك « الديمقراطية » التي كانت تسود في مصر أيّام اللا مبارك المخلوع، والتي كانت ستستمرّ خلفه بشكل أكثر عصريّة وانفتاحاً تحت حكم ابنه الذي كان « سينتخبه » الشعب المصري ديمقراطيّاً. الديمقراطيّة التي يريدونها هي عائلة حاكمة ترأس حزباً ذي « أغلبيّة مريحة » تضمن له الفوز في الانتخابات، سواء كان اسمه البعث أو حزب الشبّيحة الديمقراطي، بدعم طبقة من حيتان المال المخلصين والكرماء، وصحافة ووسائل إعلام « حرّة » ولكنّها وفيّة لسادتها تصنع الرأي العام المحبّ للرئيس، وجهاز أمني يراقب الناس حتّى في خلواتهم. هي ديمقراطيّة تضمن لهم الحصانة كيلا يُلاحقوا على جرائمهم، فهم يُحاسِبون الشعب على أفعاله ولكنّهم لا يُحاسَبون.

 هذه هي المؤامرة الحقيقية التي تُحاك ضد الشعب السوري. ولكنّه شعب يُبصر بنور الله، شعب يريد إسقاط النظام، ولا بدّ أن يستجيب القدر.

* ناشط سوري

17/08/2011