المسلمون متعصبون والمتظاهرون خونة!: ايديولوجية الواحد.. واختزال التاريخ – خلود الصغير*

Article  •  Publié sur Souria Houria le 26 juillet 2011

ليسَ هناك كالمتنوعِ المتعدّدِ خطرٌ يُهدّدُ سلطةَ المستبد العنصري. لذلك يشترك المستعمر والحاكم المستبد بممارسة سياسة الاختزال الأيديولوجي على فئات وجغرافية الوطن – بعد عزلِهِ ظاهراً أو باطناً- ومن ثمّ سياسة التعميم لتلك التنميطات ‘St’r’otypes’ التي أسقطها على فئات الشعب، مدعوماً بوسائل إعلامه ومثقفيه.
فهل كانت سورية بحاجة لثورة حرية وكرامة تكسر جدار الخوف الأربعيني عن قلبِها وعقلِها ليكتشف أبناؤها جمال مدينة سورية اسمها حماه؟ وليشرع بعضهم بقراءة موضوعيّة ومتأخّرة لسيرة حياتها؟ ربما.. نعم.
حين وصول النظام السوري الحالي للسلطة عام 1970، عبر حركته ‘التصحيحيّة’ قاصداً من هذه التسمية إطلاق حكمٍ قيميٍّ على المرحلة السابقة بكونها ‘خاطئة’ في تاريخ سورية، وهو حكمٌ أيديولوجي، لمرحلة تعتبر من أكثر مراحل سورية تنوعاً وغنىً وتعدديّة، عَمِلَ على طيّ صفحةٍ من تاريخ وطن دون السماح لأحدٍ من السياسيين أو المثقفين بدراستها أو نقدها، بل فقط بشتمها وتصويرها ب’جاهليّةِ’ سورية الحديثة مقابل مدح مرحلة ‘التصحيح’ بقيادة الحكم الحالي الحكيم. بدأت سورية بأجيالها الجديدة تعيش حالة من التجهيل السياسي الفعليّ من خلال فرضِ أيديولوجية الواحد سواء عبر البعث بشكله الجديد، أو من خلال المنظور الإتهامي للآخر أيّاً يكن، أو عبر التعمية على حقب تاريخية والإنارة لأخرى. بحيث نجد في سنوات ما بعد عام 2000 طلاب جامعات سوريين كُثر عاجزين عن ذكر اسم رئيس سوري أو اثنين قبل حافظ الأسد!! أو إننا لا نجد لديهم فكرةً عن طبيعة الحراك أو التكتلات السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال حتى استلام النظام الحكم وكيف استلم.
ببساطة اختُزِل تاريخُ سورية مدرسياً واعلامياً واجتماعياً وسياسياً بالاستقلال ثم بمرور عابر على الوحدة مع مصر، يأتي هذا على حين غفلة وكأنه حدثٌ معلقٌ بالفراغ فلا نعرف كيف تم ولماذا فشل، لنُبَاغت بالتصحيح المبارك. عدا ذلك من مراحل وأسماء وأحزاب وصراعات سياسية اعتبرته أيديولوجية النظام زوائد يستحسن إسقاطها من الذكر.
ما حصل في حماه يأتي ضمن هذا النوع من الممارسات الاختزالية للنظام، فمنذ عام 1982 اختُزلَ الشعب السوري في حماه بالإخوان المسلمين الإرهابيين وتم تعميم هذه الصورة في الوعي الشعبي الاجتماعي والسياسي السوري لثلاثة عقودٍ دون استثناءات واضحة تذكر. بحيث تركت منهجية النظام بممارسة العقوبات الجماعية، ابتداءً من المدرسة مع طلاب الصف المدرسي عند ارتكاب أحدهم خطأ ما إلى سكان المدن، انطباعات تعميمية مُرسّخة لدى الرأي العام من قبيل كل حموي = اخواني.
تحت ثقل رعب الدولة الأمنية وتحكم إعلامها في ذلك الوقت كانت عملية تعميم هذا الاختزال لأهل حماه في باقي المدن السورية أمراً ليس بالصعب، حتى أنّ بعضهم لم يعرف حقيقة ما جرى إلاّ متأخراً.
تاريخ حماه حاضرها ومستقبلها حوصر واختزل في أفعال جماعة من بضعِ مئات بقيادة عدنان عقلة المتطرف تلميذ الشيخ مروان حديد الإخواني، هذه الجماعة سمت نفسها ‘الطليعة المقاتلة’ وقامت بعصيانٍ مسلحٍ ضد النظام وارتكبت جرائم بحق المواطنين والجيش والنظام.
أسئلة منطقية تطرح نفسها (كان النظام طبعاً يعتقل أو يقتل من يفكر بطرحها):
أما كان أجدر بالدولة أن تلاحق وتعتقل هؤلاء المسلحين وتقدمهم للعدالة أمام الشعب بدلاً من هدم ثلث مدينة على سكانها، بكلِّ ما فيها، وقتل واعتقال ما يقارب الثلاثين ألف إنسان من أطفال ونساء وشيوخ ورجال، ممارسةً أبشع المجازر في التاريخ من قتل جماعي وفردي واغتصاب وتعذيب لم تعرفه العصور الوسطى؟
هل كل منتمٍ لجماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت كان مع فصيل ‘الطليعة المقاتلة’؟
هل كل الحمويين إخوان مسلمون؟
والسؤال الأهم من هي حماه قبل صعود هذا التيار السياسي فيها ‘الإخوان’ في تلك الفترة التاريخية وبعده؟
لن نعود لتاريخ المدينة الذي يبدأ قبل الميلاد، بل لنلقي ضوءاً سريعاً على ما اختُزل ولم يُعمّم من تاريخ حماه، هكذا تصبح مظاهراتها المليونية اليوم تُقرأ كاستمرارية لإرثٍ ثوريٍّ قديم وليس حقداً على جرحٍ حديث. فهي حماه التي تشكلت فيها طلائع الحركات الشعبية في أواخر العهد التركي من التجار ورجال الدين المتنورين والمثقفين الذين تخرّجوا من جامعات الأستانة قادمين بتطلعاتهم القومية التحرّرية وهمومهم الشعبيّة ضدّ تحكّم ونفوذ العائلات الإقطاعيّة المسيطرة في المدينة آنذاك، ليشكل شبابها حركاتهم الثورية ذات الطابع السياسي والاجتماعي معاً.
حماه 1925 وثورة فوزي القاوقجي ومنير الريس ومظهر السباعي والوطنيين الذين رفضوا دعوة ‘أعيان’ المدينة لتأجيل الثورة للخريف حتى يتم جمع المحاصيل عن البيادر وفضّلوا إعلان الثورة بأسرع وقتٍ ممكن 5/10/1925 لتخفيف ضغط القوات الفرنسية على جبل العرب، الذي كان يقود معارك حامية ضد الفرنسيين. حيث وجد الثوار الحمويون أنه لا ينقذ الثورة في جبل العرب سوى نشوب ثورة أخرى في منطقة حساسة من  البلاد. وعلى الرغم من أنّ ثورة حماه أُجهضت بالنهاية لكن تضحيات أبناءها لم تذهب هباءً فكان من ثمراتها إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الجيش الفرنسي، وإنقاذ ثورة الجبل وإخراجها من صيغتها المحلية إلى ثورة وطنية عامة، والأهم حجم الرعب الذي أنزلته في قلوب الفرنسيين. فبعد انسحاب حملة غاملان من جبل العرب لقمع ثورة حماه بناءً على طلب المفوض السامي الفرنسي الجنرال ساراي تمكن الثوار في الجبل من التقاط أنفاسهم وتوسيع هجماتهم خارج الجبل إلى مناطق الغوطة والقلمون.
حماه 1936 واضراب الستين يوماً المطالب بالإستقلال، حين شاركت حماه دمشق احتجاجها وتظاهراتها بصمودها الخارق ليسقط من أبنائها ثمانية شهداء في اليوم الأول فقط.
حماه ثورة 24 آذار 1945 التي انطلقت تنشد الاستقلال متجلّيةً بطابعٍ وطني تحرّري حافظت عليه بوعيٍ وحرصٍ رغم محاولات الاستعمار حينها اللعب على الأوراق الطائفية عبر الشائعات والمؤامرات بين أطيافها المتنوعة. لكنها خاضت معاركها المشرّفة تحت هدفٍ واحد هو التحرر من الاستعمار ونيل الحرية في معاركها التي قال فيها الجنرال باجيت قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط بعد توقف إطلاق النار: ‘إننا أنقذنا الأهلين في سوريا من الجيش الفرنسي إلاّ في حماه أنقذنا الفرنسيين من الأهالي’.
حماه الثائرة لم تتوقف مظاهراتها بعد الاستقلال، فسرعان ما بدأت نضالها الداخلي على صعيد معركة الحريات، حيث شهدت أعنف المظاهرات في 24/ 9/1946 استنكاراً للمرسوم (50) الذي احتوى تضييقاً على حرية التعبير والصحافة والأحزاب. ووقعت المدينة عرائض بخمسة آلاف توقيع تطالب بتعديل قانون الانتخاب ليصبح على أساس الدرجة الواحدة وقد تم ذلك في جو من المظاهرات الشعبية الضاغطة التي عمّت سورية. كتبت آنذاك جريدة ‘البعث’ التي كانت مُعارضة وثورية: ‘لا يُذكر النضال العربي إلاّ ويرتسم اسمُ حماه أمامنا تعبيراً قوياً عن استبسال شعبنا الأبيّ ضد الاستبداد. وها هي حماه تهبُّ اليوم لتحطيم بقايا العهد الاستعماري المتمثلة بقانون الانتخاب الرجعي’. 25/4/1947.
بعد حكم البعث تُختزل حماه، المتنوعة سياسياً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والمتعددة ثقافياً ودينياً وفكرياً وفق أيديولوجية البعث أيديولوجية الواحد، بمرحلة من تاريخها السياسي ظهر فيها تيار ديني/سياسي متطرف، ويصبح الجزء عاماً عبر تعميمه. ويحاكم الكل بخطأ الجزء ويحمل صفته هو وأجياله اللاحقه. إن رد الفعل القاسي والمبالغ فيه تجاه تطرف هذا التيار الفئوي وشكل العقاب الجماعي لمدينة بأسرها بحيث أصبحت الدولة تلقي شكوكها على كل من هو حموي في  ذلك الحين عبر المراقبة والمعاقبة، كرّس وعمّم في الوعي السوري صفة الجزء على المكون الحموي العام. بحيثُ تُنسى أسماء مثل أكرم الحوراني والشاعر نجيب الريس من تاريخ حماه وتعمم مُسلّمات من قبيل أهــــل حماه اخونجية متعصبون. مسلّمات أنتجتها وعمّمتها أيديولوجية النظام كتنميطات خالصة ناجزة لكل فئة ليسهل عزلها عن الأخرى. فيسود عند معظم الأقليات السورية أنّ كل مسلم = متعصب، ولدى المسلمين السوريين أنّ كل علماني = كافر، والآن يُعمّم لدى الموالين للنظام أنّ كل متظاهر = خائن مخرب.
إنه ذات الوعي وذات الأيديولوجية التي تعمل على اختزال تعدديّة الآخر ليسهل تسويقه معرفيّاً ومن ثمّ تحجيمه والحد منه.
الماضي يعود اليوم، سياسة المستعمر والحاكم المستبد هي ذاتها، من خلال الثورة التي تُخْمَدُ مدينة تلو مدينة. وعبر الاجتزاء والإختزال الذي يفرض على طبيعة الحراك الشعبي للانتفاضة السورية وعلى المتظاهرين ليسهل تصنيفهم وتعميم حكم عليهم وتحجيم حراكهم أمام الرأي العام.
تتغير سورية منذ الثمانينات .. تتغير حماه .. تزداد شباباً وتنوعاً وغنىً سياسياً مع تغير العالم، تعود كما كانت أرضاً خصبة للتظاهر والاحتجاج والشهداء.. وتبقى في عين النظام واحد

* شاعرة وباحثة في جامعة السوربون الجديدة – باريس

المصدر: http://81.144.208.20:9090/pdf/2011/07/07-17/qmd.pdf