المفاجأة الروسية – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 29 septembre 2015

المفاجأة الروسية – سلام الكواكبي

يبدو لوهلة أن التدخل العسكري الروسي في وضح النهار في سورية فاجأ بعض المراقبين، أو الدبلوماسيين الذين انصرفوا إلى تحليل أبعاده وتوقع مآلاته. وبالنسبة للروس، فهم بالتأكيد مستغربون من هذا التلقي الغريب لخطوتهم الجديدة التي تؤكد التزامهم الواضح بالدفاع عن النظام السوري، وحماية حزمة البطاقات التي يلعبون بها، ومن خلالها، على المسرح الدولي.

والتدخل الروسي في الشأن السوري عسكرياً ليس وليد الأمس القريب، وهو ترسيخٌ لـ « صراحة » السياسة الروسية ووضوحها تجاه الملف السوري، على عكس ما قابلها من جرعات النفاق واللف والدوران العربي والغربي تجاه المأساة السورية، منذ يومها الأول. ويبدو أن هذا الموقف الجلي لم يُقنع ساسة المعارضة السورية، أو محاوري الروس من أشاوس العرب، بأن يُعدّلوا في خططهم ومناوراتهم. فلم يبتعدوا عن الغزل الممجوج حيناً، أو نقيضه التام أحياناً، أو في السعي، أحياناً، إلى رشوة « الإمبراطورية » الروسية بما لذّ وطاب استخدامه طويلاً في التعاملات العربية/ العربية. وعزفوا طويلاً عن أن يقتربوا أكثر من الواقعية السياسية التي تحتمها تعاملات بهذا المستوى.

وجاءهم بوتين بالخبر اليقين، المدعوم بالحوّامات والدبابات والطيران الحربي والجنود ومستودعات الأسلحة. بل أكثر من ذلك، كرر المسؤولون الروس مراراً وتكراراً، وعلى اللبيب أن يفهم من الإشارة والعبارة، أنهم ماضون في خيارهم « السوري »، ولن تثنيهم عنه لا « زعبرات » الغرب الصوتية، ولا بهلوانيات جون كيري وممثليه، ولا زيارات الوعود والصفقات القادمة من الدول العربية ذات المصلحة، ليس في نصرة الشعب السوري، بل في مواجهة عدو حقيقي، أو متخيّل، على الساحة السورية.

يكاد يكون الموقف الروسي أقرب إلى البداهة، أما المواقف المصدومة أو المستغربة أو المتفاجئة، فهي، وإن أُحسِنَ الظن، أقرب إلى البلاهة. وبما أن السياسة لا تُترَك للبلاهة وأخواتها، فقد مرّ القطار القطبي الروسي، الشبيه بقطارات الموت النازية، بعرباته المليئة بما يُشفي غليل سادة الكرملين، أو سيدهم الأكبر، لاسترجاع مُلكٍ دبلوماسي دولي، فقدته موسكو عن سبق إصرار وتصميم غربي. وها هي عاصمة الفودكا تصحو من سكرتها، وتلوّح، للغرب ولبعض العرب، بما يسميه الفرنسيون « ذراع الشرف »، وهو أقسى علامات الشماتة والشتامة.

عبارة الفهلوة، وكما يذكر المعجم، ذات أصلٍ فارسي، ما يتوافق حتماً مع استخداماتها السياسية الجارية من حلفاء روسيا في سورية الإيرانيين. فهم، وإن شعروا بأن دخول الدب القطبي إلى مجالهم الحيوي « الحصري » قد يكون مؤثّراً سلباً على هيمنتهم الكاملة والمقرّرة، إنْ مباشرة أو
« الروس ماضون في خيارهم « السوري »، ولن تثنيهم عنه لا « زعبرات » الغرب الصوتية، ولا بهلوانيات جون كيري وممثليه »
عبر أذرعتهم المليشياوية، فهم يتعاملون مع المعطيات الجديدة، منسقة كانت معهم، أو بقليلٍ من التنسيق، بواقعية شديدة والتفافية أشدّ. وهم يأمرون أذرعتهم، على تلاوينها، بأن تتعاون، أيما تعاون، مع الواقع المُصرّح به. تعزّز موقفهم الدولي باتفاقهم النووي، وسيتحسّن موقفهم الاقتصادي في قريب ليس بعيداً، ما يُساهم في تصليب أدوارهم ومواجهاتهم في المنطقة. فمن يخال أنهم خسروا في اليمن، عليه أن يُعيد حسابات الربح والخسارة، ليرى أن ما صرّح به أحد خبرائهم علناً في مؤتمرٍ دولي، أخيراً، أن اليمن مقابل سورية، يتحقق وبشدّة. وبالتالي، دفع اليمنيون، كما السوريون وغيرهم في هذه المنطقة، ثمن منطق حسابات دقيقة، لم تغب إلا على السُذّج في السياسة، كما ذكرنا، وهم كُثر.

و »الغزوة » الروسية الجديدة تترافق مع ضوء أخضر أميركي حقيقي، لا يشبه ألبتة الخط الأحمر الأوبامي المضحك. كما أن الغرب الأوروبي يتفاعل مع الحدث بإيجابية دبلوماسية ملفتة، وهو إن أراد تسجيل نقاط في جدول حساب المماحكات، يوعز إلى أمين عام الحلف الأطلسي بإبداء القلق. أما التركي المُقدم على انتخاباتٍ دقيقة الحسابات، وحيث تتصاعد الاحتجاجات الداخلية لديه، بالاستناد إلى الموقف من الحدث السوري، فهو يضع بعضاً من الماء في « عصيره »، ريثما تتوضح أمور الموسكوف. وأخيراً، وليس آخراً، يبدو أن المرتاح والمطمئن والمؤمّن، من كل حدب وصوب، هو الإسرائيلي الذي يُنسّق عسكرياً وأمنياً وسياسياً مع الروسي.

في جلسة دبلوماسية عالية المستوى، كان حضورها أميركياً وروسياً وإيرانياً وأوروبياً، وربما إسرائيلياً، توجّه المندوب الأميركي للروسي والإيراني قائلاً: « سورية مهمتكم ». بما معناه أن ساعدوا في إيقاف المعارك، ولن نتجاوز دورنا المرسوم، ولن نطالب بأكثر مما نتفق عليه، أو من هذا القبيل (…). وفي جلسة أخرى، « عالية » المستوى هي الأخرى، قال أحد صانعي السياسة في الكرملين: « غروزني في البال »، وأضاف ببرودة قطبية « غروزني ليست فقط نموذجاً عسكرياً، بل أيضا، نموذج حلٍّ سياسي ».

في هذا السديم الدموي، لم ينبس أحدٌ من معتنقي « الممانعة والمقاومة » الجوفاء ببنت شفة إزاء التحالف الموضوعي الذي تشارك فيه « العدوة » إسرائيل مع « الصديق » الروسي » و »الشقيق » الإيراني. هم منشغلون في صياغة خطابات عصماء، جديدة الشكل والمفردات، يكشفون فيها ربما أن التزامات بوتين تجاه نتنياهو ما هي إلا « حنكة » التفافية لتحرير القدس الشريف.