المفتاح – هنادي زحلوط

Article  •  Publié sur Souria Houria le 28 janvier 2013

لى المعتقل في الزنزانة 13، زميلي في القضية غفار، أرفع صوتي قليلا لأحدثه عن مجرى التحقيق معي، أرى شبحا يقترب من ثقوب باب الزنزانة 12، أراقبه، أبتسم لبقائه على قيد الحياة، وإبقائي على قيد الأمل!
أشير له ملوّحة، ينتبه لي، يرى وجهي من طاقة الزنزانة، يفاجأ بفتاة هنا!
أكتب له فيرى كتابتي باصبعي حرفا حرفا على الثقوب:
– ش .. و …. ( أمسح بيدي بسرعة على الثقوب لأقول له أن الكلمة انتهت) .. ا .. س.. م.. ك؟
– ل.. ؤ.. ي..
– أ.. ن.. ا.. …. ه.. ي.. ا.. م.. …

– م..ن.. …. و.. ي.. ن..؟

– ا.. ل.. ل.. ا.. ذ .. ق.. ي.. ة..
– ع.. ل.. و.. ي.. ة..؟
– ا.. ي..
– ع.. ل.. و.. ي.. ة..؟ !
أبتسم، معه حق ألا يصدق، إنها أربعون عاما من عدم فهم الآخر، وعدم الاستماع له، أربعون عاما من تفخيخ الطرق بين بيوتنا في الحارة الواحدة، ياه كم نحن غرباء عن بعضنا في هذا الوطن!

يستمر الحديث لساعات، يخبرني أنه أب لطفلة كان قد أنزلها لتلعب بالمراجيح في آخر نهار لعيد الفطر، قبل اعتقاله بساعات، تبتلع الثقوب المظلمة معظم ابتسامته وهو يشير مستخدما سبابته اليمنى راسما شعرها المتموج!

في اليوم التالي كانت طاقة زنزانته مفتوحة!
العنصر الذي يوزع الطعام سأله:

– مين فتحلك الطاقة ولاااا؟
– الشب اللي بيوزع الدوا..
فانصرف ممتعضا

العنصر الذي يوزع الدواء سأله:
– مين فتحلك الطاقة ولاااا؟
– الشب اللي عطاني الأكل..
انصرف غاضبا..

أُطِل من طاقتي، أصبح بامكاننا الحديث عبر قراءة حركة الشفاه، كان يبتسم، أشرت له:
– كيف فتحتها؟
أخرج قطعة حديد معقوفة، وقال فخورا:
– طعّجتها بسناني.. مديتها ورفعت القفل.. شوي شوي.. وفتحتها..
من سيقف في طريق حريتك يا رفيق زنزانتي؟ أنت تمتلك مفتاح زنزانتك!

وكان مساء أحد أيام الاعتقال، أنا أتحدث مع لؤي بعد مجيئه من جلسه تحقيق، وجسده مزدان ببعض الصفعات والركلات، يوزعون العشاء فيقطعون حديثنا، لا بأس، فنحن جائعان لطول ما تحدثنا!
العشاء حبة بطاطا فاسدة، لا نأكل، رفضنا أن نأكل، جعنا، قلت له وقد تملكني الغضب:
– فوت لجوا.. ما بيجيبوها غير النسوان..

طرقت باب الزنزانة الحديدي بيدي الضعيفة، أتى عنصر مبتسم، متأنق:
– شو بدك؟
– هلق بدي اسألك بس لو سمحت.. العشا اليوم بطاطا بس مو هيك؟
– ليه عم تسألي؟
– منشان أعرف شو بدي آكل.. يعني آكلها مشوية واللا مسلوقة واللا شو؟ البطاطا بس منزوعة ونحنا جوعانين..
– ليش ما جابولكن جبنة؟
– لأ.. ما جابوا لحدا بالمنفردات…..
– ثواني بس..
يغيب لربع ساعة تقريبا، أخبر لؤي عن الجبنة، نبتسم للجبنة الموعودة، نطبطب على معداتنا الصارخة أن تصمت..
يعود العنصر راميا في يدي الصغيرة بثلاث مثلثات من جبنة أبو الولد، ويمضي!
وماذا أقول الآن لـ لؤي؟ « جابولي جبنة الي أنا بس؟ »
لا يرضى لؤي بأن أرمي له مثلث جبنة، يقول لي: انتي بنت.. كليهون.. أنا زلمة.. بتحمل!

لم يتحمل طويلا، يقول لي غاضبا:
– فوتي لجوا.. هلق صار دوري أنا!

يطرق باب زنزانته بقبضته القوية:
– مييييييييييييييييين؟
– أنا..
– مين أنت..
– أنا مواطن..
– وشو بدك يا مواطن؟
– جوعان!

غاب العنصر المبتسم وأتاه بعد دقائق:
– تفضل يا مواطن.. منشان تشوف قديش نحنا كريمين.. وهي خبزة.. وحلاوة كمان..

ينظر لؤي إليّ منتصرا ويقول: شفتي! سمعتيه؟ أنا مواطن!
وأكل الحلاوة كلها، فتمكنت من التهام مثلثات الجبنة دون أدنى إحساس بتأنيب الضمير!

يتبدّل على الزنزانة 11، المواجهة لي تماما، كثير من المعتقلين، وفي أحد المساءات أرى وجه معتقل « جديد » فيها، فتحوا طاقته لأنه كان مريضا، وكالعادة يسألني لؤي أن أستفسر عن اسم المعتقل الجديد، علّنا نستطيع معرفة بعض المعلومات عما يجري في الخارج..

ويصعق حين أخبره عن اسم نزيل 11، إنه صديقه وابن حارته: مازن!
يخبرني مازن أن هنالك 4 أربعة شهداء.. في  سـ…
– السيدة زينب؟
-لأ.. ب سـ..
– الصالحية؟
– لأ.. ب سـ..
ويأخذ السؤال مني ساعة كاملة لأفهم منه أن عدد الشهداء لهذه الجمعة قبل اعتقاله هم أربعة، في سوريــــــــــــــة كلها!

آخذ استراحة قبل أن أتابع حديثي المضني معه، ألوّح بصحني ليتحرك الهواء قليلا ويخفف من الحر، أعود لأكمل حديثي، ولؤي يضحك شامتا من معاناتي في الحديث مع مازن..

– قولي لـ لؤي أنه فداء استشهد.. قوصوا عليه..
وبسذاجتي أنقل الخبر لـ لؤي:
– عم يقلك مازن أنه فداء استشهد..
يضع يده اليمنى على فمه، يكاد أن يصرخ، تدمع عيناه كطفل:
– فداء استشهد؟ فداء رفيقي؟ استشهد؟

لم أعرف ماذا أقول له، أرجوك لا تبك، تبا لهذه الأبواب الحديدية، تبا لكل القيود، إن بكيت أنت من سيضحكني بعد اليوم؟
يدخل إلى زنزانته باكيا، وأذهب أنا إلى النوم، لكن الطرق إلى عوالم الأحلام تبقى مقفلة أمامنا، كما جميع السوريين، رغم ثقتي أننا نمتلك مفاتيحها..

http://blogs.mediapart.fr/edition/paroles-syriennes/article/140113/la-clef