المنحب والمصفقون والجراثيم والشعب الذي أريد له ألا يفقه قولا – إياد*

Article  •  Publié sur Souria Houria le 25 juin 2011

في أرض الشام التي بارك الله فيها يعيش شعب كتربة الأرض فيه من كل الألوان أو يكاد، غير أن هذا الشعب قبل أكثر من أربعين سنة كان عاجزاً يعيش في حالة تخبط ولا يكاد يفقه قولاً، هكذا أريد لنا أن نعتقد، حتى أتاه حافظ ليصحح مسيرته في حركة تصحيحية تاريخية، يحفظه بها من التمزق ويخرجه من الظلمات إلى النور، ويعلّمه أن يعيش كشعب واحد بقيادة حزب واحد ورئيس ملهم دائم لا يُبدَّل ولا يُحوَّل.
ولكن الموت حق، وخوفاً من أن يكون الشعب السوري مازال عاجزاً كالطفل عن التوجه الصحيح رغم ثلاثين سنة من التربية الصارمة، ورحمة به ألا يعود إلى ظلمات الجاهلية، فقد حرص  القائد الملهم أن يسنّ « سنّة حسنة » قبل أن توافيه المنية ويسمي خليفة يأخذ بيد الشعب بعده ويقوده إلى مرحلة جديدة ما كان ليصل إليها دون قيادة حكيمة. وكان القرار الشجاع بتسمية بشار، ومن لهذه الخلافة إلا الملهم ابن الملهم، الذي كان زاهداً فيها لولا أن اختاره أبوه، مضحياً بمستقبله المهني كطبيب، من أجل أن يقود مسيرة الشعب ويدله سبيل الرشاد.
ومنذ الأيام الأولى قُذِف حب بشار في قلوب أبناء الشعب، فبعد الأب الذي ربى، هاهو ذا الابن الشاب برفقة زوجته المتألقة، نجمان كنجوم السينما اللامعة، هاهو يأخذ القيادة ليُدخِل سوريا في مرحلة جديدة كي تكون مناراً يُهتدى به ونموذجاً في تحقق كرامة الإنسان وحريته. وأراد بشار أن يفتح أبواب الحرية أمام شعبه، أو هكذا قال، ولاحت بشائر الربيع المزدهر، ولكن سرعان ما خابت الآمال، فلقد أثبت الشعب سريعاً أنه مازال عاجزاً عن استيعاب قيم الحرية كما أريدت له وأنه يوشك بأن يكفر بفضل قادته، فكان لابد من إعادته تحت الوصاية والاستمرار في تربيته.
غير أن ثقة الشعب ببشار وحكمته قوية لا يسقطها إعصار،ومحبته له لم يسبق لها مثيل، فلا عنترة ولا عبلة، ولا قيس ولا ليلى، ولا روميو ولا جولييت، ولكن بشار وبس، وهكذا تسارع الصغار والكبار، والنساء والرجال، وكل من هب ودب على أرض سوريا من الأحياء والأموات لتأكيد هذه الثقة والمحبة اليقظة، لخصها أحد العشاق بقوله « سبحان اللي جملك بجمالك، ويرحم اللي سماك باسمك، فنان تفنن برسمك، هب الشعب وصاح منحبك منحبك« .
وفيما بين نهاية العام الماضي وبداية هذا العام تناقلت وسائل الإعلام صوراً عن ظاهرة جديدة بدأت تنتشر في العالم العربي، بداية بتونس ثم بمصر، إذ رأينا شباباً أصابهم نوع غريب من الجراثيم، تُحدِث لهم حكة تدفعهم للخروج من بيوتهم هاتفين بإسقاط حكامهم الصالحين غير آبهين بالضرب أو القتل، بل كلما ضُرِبوا أو قُتِلوا ازدادوا خروجاً (لعل هذا كان يُذهِب الحكة) ، وكان من نتائج هذه الظاهرة المرضية في ذلك الوقت أنّ حافظ تونس قد هرب، بينما كان حافظ مصر يتخبط ولا يعي ما يحصل.
في تلك الظروف المقلقة وبعد إحدى عشرة سنة من الحكم التنويري في سوريا، كانت سوريا تصنف عالمياً بدرجة 152 من 167 في الديمقراطية،  و181 من 191 في حرية الصحافة و127 من 178 في الفساد، و كان هذا يؤلم بشار الذي يبدو أنه لم يجد النضج الكافي عند شعبه لهذه القيم، فأراد أن يُسِرَّ بأحلامه ومشاريعه للنهوض بشعبه وإيصاله للدرجات العلى في الحرية والديمقراطية، فاختار صحيفة أمريكية توصل فكرهُ للعالم المتحضر.
حينئذٍ، في آخر شهر كانون الثاني من عام 2011، قال الطبيب بشار أن تلك الجراثيم تنتشر لوجود مياه راكدة منذ فترة طويلة، لكون حكومات تلك البلاد بعيدة عن شعوبها، ولا خوف من انتقال هذه الجراثيم إلى سوريا ونزول الناس إلى الشوارع لأن القيادة السورية قريبة من معتقدات الشعب، ثم إنه لا يمكن للجراثيم أن تتكاثر في سوريا إذ لا توجد مياه راكدة لأن القيادة تتحرك، أو هكذا قال الطبيب بشار. ثم تكلم بشار عن إيمانه بالديمقراطية والإصلاح، وعن ضرورة احترام المراحل 1.. 2.. 3.. 4.. إلى 6 وضرورة فتح عقول المواطنين، ليصل إلى القول أنه لا مفر من الإصلاح ولكن يجب ألّا يكون هذا الإصلاح رد فعل وإنما قناعة، وبالتالي فطريق الإصلاح طويل وقد يحتاج الأمر إلى انتظار جيل قادم (وللعِلمِ فالجيل قد يصل إلى ربع قرن أو خمس وعشرين سنة)، ولكن بشار أكد أنه ليس لهذا أهمية إذ أن أبناء شعبه صبورون بطبعهم وما يهمّ هو إعطاؤهم الأمل.
قامت الصحف ووسائل الإعلام في سوريا بترجمة هذا الكلام، وصفق المصفقون وابتهج الشعب المحب لرئيسه بهذه الحكمة البالغة فبشار يمشي بهم على قدرعقولهم، وفي التأني السلامة.
غير أن جراثيم المياه الراكدة لا تعرف الحدود، إذ لم يمض أقل من شهر حتى وجدنا مئات من سكان دمشق أو ما يزيد، قد أصيبوا بالحكة ذاتها وخرجوا إلى الشارع ينادون كلاماً غير مفهوم يقول « الشعب السوري ما بينذل« ، ثم انتقلت العدوى سريعاً إلى أطفال في درعا خرجوا يكتبون « الشعب يريد إسقاط النظام« .
كفر عظيم وجحود ما مثله جحود، دلّ على خطورة هذه الجراثيم وقدرتها التخريبية، رغم عدم وجود مياه راكدة في سوريا كما أكّد الرئيس المحبوب. فكان لابد من معالجة حاسمة قبل أن يعمّ البلاء فيؤدي إلى تأخير مخططات بشار الإصلاحية من جيل إلى أجيال. وُكِّلت هذه المعالجة تحت إشراف الرئيس الطبيب إلى أفضل الفرق السورية المختصة بنسف الجراثيم بقيادة أخيه الماهر الغني عن التعريف، وبنصح خبراء معروفين من أصدقاء سوريا، فابتهج المحبون وصفقوا لحكمة الرئيس وحسن تصرفه.
وفيما كانت الفرق المختصة تقوم بملاحقة الجراثيم وضربها واعتقالها فتعذيبها أو قتلها (مع العلم أنه استحال التفريق بين الجراثيم وحامليها، فلابد من القضاء على الحامل للقضاء على الجرثوم)، راكضة خلفها من مدينة إلى مدينة ومن شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت  بدون فائدة ملحوظة، كان الرئيس المحبوب الذي فُجِع بالشعارات المرضية التي تدل على تغير مشاعر جزء متزايد من أبناء شعبه نحوه، يتابع مخططه في ترقية شعبه نحو الحرية والديمقراطية، فسمّى حكومة جديدة وأمر بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى لإغناء قوانين الإصلاح، لرفع حالة الطوارئ ولحرية التظاهر (أملاً بخداع الجراثيم للظهور وتسهيل القضاء عليها)، ولصياغة قانون لحرية الإعلام وآخر للانتخابات ولحرية تشكيل الأحزاب، مع التأكيد على لسان بعض المصفقين أن حزب البعث التاريخي سيبقى قائداً للأمة.
هذا التقدم السريع والهائل في المشروع الذي كان مقدّراً له أن يستغرق جيلاً كاملاً، قد فاجأ المحبين وتجاوز نضوجهم العقلي واستعدادهم للحرية والديمقراطية، ولكنهم عبّروا عن حبهم وثقتهم بحكمة الرئيس المحبوب بالتظاهر العفوي وآيات الشكر والثناء مردّدين « مطرح ما بتدوس راح نركع ونبوس« .
ومرت الأيام وازداد انتشار الجراثيم في كل أنحاء سوريا. لم يفهم أحد كيفية الانتشار و سبب ضعف مناعة  أبناء الشعب السوري، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، أمام هذه الجراثيم، رغم عدم وجود المياه الراكدة في سوريا. وزادت الفرق المختصة في ملاحقاتها مع استعمال كل الأسلحة التدميرية الممكنة لمقاومتها ولكن سُدى فكانت النتائج عكسية، لا بل وعظمت المصيبة إذ انتقلت العدوى إلى بعض من أُرسِل ليلاحق الجراثيم، فمنهم من هرب ومنهم من قُتل.
وأمام هذه الأحداث التي روعت الرئيس ومحبيه، خرج بشار ليطمئنهم أن الأمور تحت السيطرة. أكد لهم الحبيب أهمية مشاعر الحب المتبادلة وأنه في الأسابيع الماضية كان همّه أن يلتقي بوفود شعبه ليقرأ في عيونهم حبهم الشديد له، ولكنه في نفس الوقت أكد على قلقه الشديد من التخريب النفسي الذي أحدثته تلك الجراثيم، إذ رأى جيلاً جديداً من الشباب والأطفال قد فقد هيبة الدولة، بل منهم من قال كفراً إذ ردّد « ما منحبك ما منحبك، ارحل عنا انت وحزبك« ، وها هو جهد أكثر من أربعين سنة من التربية وتنظيف أدمغة الأطفال السوريين قد ضاع في لحظات.
بشار كان يدعو منذ أشهر قليلة إلى التأني مؤكداً أن تغيير العقول والإصلاح في سوريا يحتاج انتظار جيل مقبل، ومنذ أسابيع كان يريد أن نتعلم من تجارب الأمم الأخرى ويريد قانوناً للأحزاب مع الحفاظ على المركز الخاص لحزب البعث، هاهو يفاجئ محبيه والمصفقين بأنه يريد تغيير الدستور السوري وأنه لن يبقى لحزب البعث ميزة دستورية، وأن سوريا لن تتلقى دروساً من أحد بل هي التي ستعطي الدروس للعالم في الديمقراطية بعد بضعة أشهر. ومن جديد صفق المصفقون وخرجوا في الشوارع يمرحون ويفرحون، فالرئيس الحكيم يَخرج لهم كل حين بكلام جديد لا يكادون يفقهونه يبث في قلوبهم السرور.
بَيد أنّ كل من أصيب بجراثيم المياه الراكدة قد اكتسب مناعة تحفظه من تصديق وعود بشار الضبابية، وكلّ من جرّب هذه الجراثيم وجدها خيراً ولم يعد يخافها، لا بل واجتهد على نقلها حتى دخلت في كل بيت أو أوشكت الدخول.
سيزداد انتشار الوباء ساعة بعد ساعة، وستيأس فرق الموت من ملاحقته، وستزداد انقساماً فيما بينها مع ازدياد الانتشار، ولن يكون هناك مهرب أمام هذا المد الجرثومي.
عندها سيخرج بشار للمرة الأخيرة ليعلن عودته إلى ممارسة الطب، فهو لم يرد يوماً أن يكون رئيس جمهورية ولا أن يكون حبيب ملايين، سيعترف أنه كي تتطور سوريا عليه أن يسلم أمرها إلى شعبها، فهذا الشعب قادر على قيادة نفسه بنفسه دون وصاية، وسيُقِرُّ أنه وعصابته هم من عملوا على إبقاء هذا الشعب في حالة عجزٍ وتبعية. يومها سيهرب بعض المصفقين مع تلك العصابة المتسلطة، وسيستيقظ بعضهم بعد طول رقود، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله الذي تحقق على أيدي شعب غيّر ما بنفسه فغيّر الله ما به.

*إياد: ناشط سوري
24/06/2011

ملاحظة: المقال يعبر فقط عن وجهة نظر كاتبه